هذه القصة من عدة سنين وانا اكتبها لكي اقدمها لهذا المنتدى العزيز
اشرقت شمس الصباح على قرية الحزنونة التي تقع شمال مدينه نابلس الى اليمين من بيارات الامل ، اشرقت ومحت اثار الظلام ، في حين استيقظت اشجار التين والزيتون من سبات قصير ورفعت اغصانها الى السماء , وايقظت معها بيارات البرتقال والليمون التي ما فتئت ان ركلت قطرات الندى عن اوراقها وارتعشت رعشه قوية نتاجها ان التصقت جزيئات رائحتها الزكية بانفاس وهواء قرية الحزنونة النقي ، والذي بدوره ارسلها بكل اتجاه والى كل ناحية بل والى كل شبر في فلسطين والى اقصى مدى يمكن ان يصله ولو بقي معه ذرة واحدة من تلك الرائحة ، ولكن يعود من جديد الى بيارات الحزنونة ويتشبع ويحمل اقصى حمولة ممكنة ويكمل عمله يطير ويلقي حمولته هنا وهناك .
استيقظ الناس في القرية ولا يزال ابو فرج – سعيد القاسم- مستيقظ يمسك بغصن صلب قديم من شجرة لوز ، يمسكه بكل ما أوتي من قوة ويضرب به على رجليه , ويمشي بسرعة هنا وهناك امام داره او ان صح التعبير امام غرفته ، ويقف خارجا معه ولده فرج ذو الثلاثة اعوام وابنته امال ذات العامين ، وفجأة سمع الزغاريد ، واتبعها خروج الداية ام الامين بسرعة من داره وتقول : الي الحلوان اجاك ولد زي القمر . حينها ارتسمت على وجه ابي فرج ضحكة فرزت تجاعيد وجهه وقال : الحمد لله . اراد حينها لو يجمع الدنيا بيديه ويضمها الى صدره مثلما يضم زوجته. دخل بسرعة على زوجته وقبل جبينها المتعرق وامسك بيدها واخذ الطفل من على صدرها وقبله ورفعه الى الاعلى وصرخ بأعلى صوت هو يحيى السعيد ، اسماه يحيى لان زوجته تريد هذا الاسم وكأنها تؤمل على القدر ان يجعله يحيا لاطول فترة بسعادة وهناء بعدها اخذ ابو فرج يسابق الريح الى المدينة (اي نابلس) ليحضر الحلاوة والملبس, ليعطي كل من يعرف ومن لا يعرف ليعبر عن مدى فرحته.
مرت هذه الليلة وما اجملها من ليلة لهذه العائلة البسيطة. بعد نوم الطفلان جلس ابو فرج على عتبة داره واشعل سيجارة واطلق عنان بصره الى السماء والى النجوم دون ان يبدي اي حركة ثم مالبثت لاحلامه ان قطعتها زوجته بلمسة على كتفه وهمست " مالك في ايش بتفكر يا عمري" ، نظر اليها بابتسامة الحب وكأن الدموع فاضت من داخله ولكنه حبسها ، وقال : لا ما في اشي . ولكن بعد الحاح زوجته الطيبة التي رضيت به مع انه لم يكن يملك سوى غرفة ورثها من والديه وبالطبع اضف اليها اراضي الاجداد ، بل في قلبها رأت انها ملكت الدنيا كلها بأخذها قلب زوجها الحنون، اخبرها انه كان قد تذكر حنان المرحومة عليه لانه كان اصغر اخوته وقوة وطيبة المرحوم وقساوة الحياة .
عند بزوغ الفجر ايقظت ام الفرج زوجها وابنها فرج كالعادة وقد حضرت لهما رغيفان من الخبز وحبا ت زيتون ووضعتها في قطعة قماش ليأخذاها معهما الى العمل اي الى الحصيدة والارض.
مرت السنين وكأنها رمشة عين افاقت لرؤية يحيى وقد التحق بمدرسة الغد في قرية البينونة في جنوب مدينة نابلس وكان قد اكمل دراسته الابتدائية في قريته وكان الاول في مدرسته وبلغ الان من العمر العشرة اعوام وعليه الان الذهاب الى تلك القرية مع اقرانه من قريته والاعتماد على نفسه ، ولكن يحيى لديه القوة التي اكتسبها من والديه ، ولديه الحب والامل .
هو يحيى ويحب الحياة لوجود والديه واخوته ، برغم قسوة الحياة وبرغم فقرهم وبساطتهم . كل يوم كان يحيى يقطع مسافة كبيرة يمر خلالها من جبال وهضاب ووديان بملابسه ذات العشرة رقع التي عاصرت كل الفصول الى ان يصل الى مدرسته ، كانت امه تقيظه كل يوم عند الفجر مع والده واخوه ، وكانت تحضر له نصف رغيف من الخبز المشبع بالزيت والمملح لياخذه معه الى مدرسته حتى اذا ما جاع في رحلته , وقبل خروجه اعتاد تقبيل يد والده وانجذابه الى حضن امه واخذه القبلة ، بحيث يشعر بعدها وكأنه ولد من جديد ويطير الى مدرسته بكل قوة وارادة وتصميم ، وعند عودته واقترابه من قريته يكون قد انهكت قواه وتورمت قدماه ، حينها يصب الماء من جسده سواء في الصيف او الشتاء وحينها يراوده شعور الحيرة وخيبة الامل واوهام الحسد من من يراه افضل حال سواء في مدرسته او قريته ، ولكن سرعان ما تتبدد هذه الاحاسيس والهواجس حين يجد نفسه ملقى في حضن امه ووصوله لبيته ، عندما تحدثه امه ينسى معنى الظلم والتعب ويحب الحياة.
وبالطبع لكل فرد من هذه العائلة عمل يقوم به ، حيث ابو الفرج وولده فرج يعشقان الارض وتعشقهما اشجار الزيتون ، وام الفرج تجيد الخياطة والتطريز بالاضافة الى اهتمامها بشؤون بيتها وعائلتها بمساعدة ابنتها امال ، ومع ان امال وفرج اكملا فقط المرحلة الابتدائية من دراستهم في قريتهم ولم يتمكنوا من اكمال الدراسة بسبب ظروفهم التي تحتم فقط الدراسة لفرد واحد ، الا انهم يشعرون بالفرح لانهم ضحوا ومكنوا يحيى من الدراسة وحيث ان كل الامال تقع على عاتق يحيى فهو مصمم على التقدم والانتقام من الظروف.
وبعد عدة اشهر كان ابو الفرج وفرج عادا بعد يوم دافىء جميل هادىء شاق والبسمة مرسومة على وجههما من ارضهم وكانا قد باعا من محصول الزيتون وقبضا الثمن ، حينها اخبر ابو الفرج عائلته ان يطلبوا منه امنية اي لكل فرد منهم امنية يطلبها منه ، وسوف يحضرها في اليوم التالي لانه سيذهب الى نابلس . امنية.... كلمة جميلة وما اجمل تحققها ولكن لهذه العائلة هي اماني بسيطة لانهم يعلمون الظروف وقدرة ابوالفرج ، طلبت ام الفرج من زوجها اليانس ( اي المنديل) مصحوب بعصبة الرأس ، وطلب فرج فخة لصيد الطيور ، وطلبت امال دمية احلامها ،دمية من الاسفنج وكأنها تريد اعطاء ما تملكه من حنان الطفولة لهذة الدمية ، وطلب يحيى من والده دفتر جميل ليريه الى اصدقائه في المدرسة وكان قد طلب من امه ايضا قبل ايام ان تصنع له لفحة مكتوب عليها ومطرز" تحيا فلسطين الى الابد" لكي يضعها على رقبته لتدفئه.
نام الاطفال ونامت معهم احلامهم البريئة بعد ليلة جميلة ومازال ابو الفرج مستيقظ وينظر الى اطفاله النائمين ببسمة غريبة وماتزال ام الفرج مستيقظة وتطرز لفحة ابنها يحيى، وفجأة نظر ابوالفرج لزوجته وقال : تعلمين كم احبك وسأظل احبك الى الابد وحتى لومت ستبقى روحي الى جانبك . ثم قطعت ام الفرج كلام زوجها وقالت : بعيد الشر عنك ليش بتحكي هيك يا عمري واتبعتها بنظرة باسمة الى عيون زوجها ، حينها احب ابوالفرج الحياة لان هناك من يهتم لامره، وقالت زوجته : صحيح طلبنا جميعنا امنيات وبقيت انت ماهي امنيتك؟ اجاب زوجها: امنيتي ان اعيش واحقق لكم امانيكم التي حرمتم منها منذ زواجنا والى الان ثم خرجت كلمة احبك من فمه ببساطة وكان قد نام وكأنها في حلمه .
عند الفجر ارادت ايقاظ زوجها واطفالها واذا الجميع مستيقظ وسأل يحيى امه اذا ما اكملت لفحته ليلبسها ولكن اخبرته انه عند عودته ستكون جاهزة ، قبل خروجه ضمته امه وقبلته كالعادة ويومها قبل اخوته لانهم مستيقظين ينتظرون هداياهم وقبل يد والده ولكن يومها قال له والده : اعتني بنفسك ودراستك بحيث تقدم شيئا لاهلك و لقريتك ووطنك ، لم يفكر حينها لماذا جاء هذا الشعور الى والده ، اكد قبل خروجه على والده ان لا ينسى احضار دفتره ، وحين خرج نظر الى السماء ولكنه شاهد جوا غائما كئيبا صامتا ، وتابع طريقه الى مدرسته .
ثم خرج ابو الفرج الى نابلس ليحضر ما وعد به عائلته وليحضر بعض المونة لبيته ، وكان فرج ينتظر بلهفة فخته لكي يتمكن اليوم من اصطياد ولو طير واحد وكانت امال تنتظر دميتها الصغيرة وكانت ام الفرج قد شارفت على اتمام خياطة لفحة يحيى وحينها كانت تنتظر بلهفة زوجها وابنها وحينها شعرت بخوف شديد وكأن القدر يريد ان يخبرها بشىء ولكنه يستحي ما يخبرها ويستحي من مواجهة هذا القلب الطيب الذي ما كره او حمل اي حقد منذ خلقه .
مر الوقت ببطىء شديد وفجأة عاد الاب الى بيته وعلى وجهه رسم الخوف ويحمل امنيات اطفاله بيديه واعطى كلا منهم ما طلب وبقي دفتر يحيى الذي اخذته اخته لتخبئه لحين عودته ، لبست ام الفرج منديلها الجديد ولفت عصبتها الجديدة واخذت امال دميتها وضمتها الى صدرها واخذ فرج فخته واراد الخروج لنصبها ولكن قال له والده بفزع : لا . قالت زوجته ما الامر . قال : لقد شاهدت في طريق عودتي دوريات اليهود وكأنها متجهة الى قريتنا . قالت زوجته وقد اكملت خياطة لفحة فلذة كبدها : الله يسترنا ان شاء الله ما بيجوا هان ، وحال انهاء كلامها سمعت العائلة صراخ في الخارج يقول : اهربوا اجوا اليهود .... يهود....يهود طوقوا البلد .
خرج ابوالفرج ونظر من الباب ورأى دوريات كثيرة وطائرة تحلق في سماء القرية وهلع وصراخ في الخارج وعاصفة قوية قال لزوجته : خبئي فرج وامال في خزانة صغيرة قديمة . فوضعت طفليها في الخزانة وفجأة كسر الباب واطلت بنادق جديدة وانقض الجنود واخرجو ابوالفرج وزوجته الى الخارج ولا تزال ام الفرج تمسك باللفحة، واذا بالجنود منتشرين في القرية ويجمعوا كل ما يمكنهم جمعه من الناس ثم وضعوهم في صفوف ، كان هناك الكثير من اليهود المدججين بالسلاح لا يمكن عدهم ، ثم احاطوا باهل القرية وصوبوا البنادق الى رؤوسهم وفجأة اقدم رجل ببزة عسكرية يسمى دخيل الغريب ويحمل الكثير من الرسوم والاوسمة على صدره ويحمل مسدس على جنبه ويلبس نظارة سوداء ويتكلم بجهاز اسود طويل يحمله،
يتبع.....