خالقُ الأشياءِ لا يفنى و لا يبيد . و الأشياء لا تساوي خالقها في صفاتها المصيرية و لا غيرها.
فنَقْصُ المخلوقُ يعني كمالَ الخالق ، و فناءُ الموجودِ يعني دوامَ المُوجِد سبحانه و تعالى.
قال لبيد: ألا كلُ شيء ما خلا اللهَ باطلُ............ و كلُ نعيمٍ لا -محالة- زائلُ
لكل كائنٍ أجلٌ تتوقف عنده ساعته الزمنية . و يُخلِدُ بعد الحركة إلى السكون .
فلا يكاد يقتربُ من الكمال إلا و يكبو مُعلناً تراجعه و عجزه عن إتمام الكمال ، و كأنه يقول بلسان حاله "و ما كان لبشرٍ من قبلك الخُلْد" ، مهما بلغ من القُدْرَة و العِلم فهما محدودتان لأنه محدودُ الخلق و الوجود و الفناء.
(الله الذي خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوةً ثم جعل من بعد قوةٍ ضعفاً وشيبةً يخلق ما يشاء وهو العليم القدير )
و لما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه قول الله تعالى (اليوم أكملتُ لكم دينكم ، و أتممتُ عليكم نعمتي) قال: "و الله ما بعد الكمال إلا النقصان".
هي السنة الربانية التي لا تسمحُ لمخلوق أن يقترب من مراتب الكمال إلا و تحرقه نار الكمال و غروره فيتلاشى عائداً أدراجه الضعيفة الناقصة. لأن هذه الدار وسيلةٌ ، و الآخرة هي الغاية. و كمال الوسيلة مع دوامها يقضي على غرض الغاية مما يعطلها عن وجودها و هو محالٌ .
تجتمع الطاقاتُ و القُدُراتُ و العقول البشريةُ فتكوِّنُ حضارةً و تاريخاً ، و تتفاوت تلك الحضاراتُ في السمو و الدنو ، لأنها مخلوقةٌ و المخلوق لا يفعل ما يشاء كما يشاء .
فلا تتدرج تلك الحضاراتُ في العلو و مراقي الكمال و القوة إلا و تحمل بين أسباب قوتها أسبابَ ضعفها و سقوطها.
فتُعَمَّرُ ما شاء الله لها أن تُعمَّر ثم تبدأ بالتدرج الطبيعي للمخلوق (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة ) و ما بعد المشيب إلا التراب. و قديما قالوا : "ما طار طير وارتفع إلا و كما ارتفع وقع"
لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ......... فلا يُغّرُّ بطيب العيش إنسانُ
كانت ناقةُ رسول الله صلى الله عليه و سلم "العضباء" لا تُسْبَقُ فجاء أعرابيٌ بناقةٍ له فسبقتها فشق ذلك على المسلمين فقال صلى الله عليه و سلم ( إنه حقٌ على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه ) أخرجه البخاري فهو وعدٌ و حقٌ التزم به رب العزة و الجلال و هو (لا يخلف الميعاد). و الناظر في سبب حديث (حق على الله...) الخ. يتضح له جلياً ، أن الضعيف لا يظل ضعيفاً و أن القوي لا يظل قوياً سواء كانت دولةً أو فرداً أو جماعات.
فلا تحزن لطول حزنك أو ضعفك فغداً تأخذ قسطك من القوة و التعويض . إلا ما شاء ربك و لا تفرح لطول فرحك و قوتك فغداً تأخذ قسطك من الضعف و العدل. إلا ما شاء ربك
و هو عين الحكمة و قلبها ، لأن تسلٌّط أي حضارة أو دولة أو جماعة أو فرد و تفرده بالكمال على وجه الدوام يناقض العدل و يقضي على روح التنافس و يقتل الهمم ، ما يفضي إلى اختلال عمارة الأرض و خلافتها على الوجه الصحيح العادل.
و لما كان الخالق سبحانه هو الحَكَمُ العدلُ ، فإن الضعيفَ لا يبقى ضعيفاً على الدوام ، فإنه إما أن يرحل إلى غير رجعة فيكون في عِدادِ المعدومين ، و إما أن يكون محلاً لمساعدة الظروف و الأقدار فتُمكِّنه من العلو في الأرض بتسخير أسباب القوة و القيادة من حيث لا يدري ولا يشعر. و حينها تكون قد بدأت ولادة حضارة جديدة بقدراتٍ و طاقاتٍ كانت ضعيفة مهزومة ، ليتجلى مظهر التداول و توزيع القُوَى و القُدراتِ و الحضاراتِ في أروعِ الصُّوَرِ و أعدلها. فكم في تقلُّب الزمان على من سبق من الحضارات و الأفراد و المجتمعات من عبرة لكل عاقل. (الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا ) فقد أصبحوا خبرا من الأخبار ، و عبرة لذوي الأفهام و الابصار. بلغت الدولة الأموية بعد الخلافة الراشدة ما بلغت من الفتوحات الإسلامية و القوة ، ثم جرت عليها سنة التداول ، فاستبدلتها سُنَّةُ التداول للقُوى بالخلافة العباسية ، فبلغت مبلغها من القوة و العلم و الرفعة ، ثم سقطت ... و هكذا... حتى على مستوى الدول العربية المصغرة ... فمنها من كان يرزح تحت الجوع و الفقر و المرض و الجهل و الخوف ، بينما كان من يساويها من المجاورين يرفلون في النعم و رغد العيش و الأمان، فتبدلت تلك الأحوال تبعا لسنة التداول و التوازن التي ضربها الله على البشر كسنة عادلة حكيمة.
فيا طامعاً في دوام الحال أو كماله أرح نفسك فإنك تطلب المُحال. فما بعد الكمال إلا النقصان.
جميل جدا
كلمات تبعث على الأمل
اخ شكوى .. تملك قلم بارع في الكتابة
ماشاء الله و بلمسات إيمانية رائعة
بارك الله لك في علمِك و نفعك بِه ،
اسأل الله ان يبدل احوال المسلمين الى افضل حال
سلمَت يمينك