ثالثًا: إن المهر حق من حقوق الزوجة وليس حبرًا على ورق:
إن مقولة 'المهر هو حبر على ورق' هي مقولة راسخة في عقول الكثير من شبابنا وبناتنا على حد سواء.
إن كثيرًا من الشباب وبغير وعي يكتبون من تلقاء أنفسهم لزوجاتهم مهرًا خياليًا يفوق قدرتهم المالية أضعافًا مضاعفة.
ولا هدف لهم من ذلك إلا التعاظم وحب الظهور وطلب السمعة لا أكثر ولا أقل. وهؤلاء يجهلون أن الله تعالى جعل المهر حقًا مكتسبًا للمرأة لا يجوز للرجل أن يفرط فيه أو يتجاهله.
وإذا كان العرف في أيامنا قد سرى بتقسيم المهر إلى معجل ومؤخر، وجعل المؤخر لا يستحق إلا بالطلاق أو الموت ولا حرج في ذلك من الناحية الفقهية، إلا أن هذا لا يعني أبدًا أن المهر هو حبر على ورق، تمحيه الأيام وتلقي به في زوايا الإهمال والنسيان.
إن الله تعالى قد حرم على الرجال أن يمدوا أيديهم إلى مهور زوجاتهم بغير حق وبغير إذن منهن في آيتين صريحتين لا تحتملان تأويلاً ولا تبديلاً.
أما الأولى فقوله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] أما الثانية فقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:20].
إن على هؤلاء أن يعلموا أن هذا المهر إنما هو دين في رقبتهم يجب أداؤه لزوجاتهم متى قدروا على ذلك، فإذا لم يفعلوا وعاجلهم الموت قبل ذلك، فإن ثروتهم لا تقسم على الورثة قبل استيفاء المهر منها وأخذ الزوجة كامل حقها.
إن عليهم أن يعلموا أن الرجل إذا كتب مهرًا لزوجته فإن عليه أن ينوي أداءه عاجلاً أم آجلاً، أما إن كانت نيته منعقدة على أن هذا المهر لا أثر له، فإنه يعتبر في ميزان الشرع زانيًا وسارقًا يستحق عقوبة السارقين، والزناة يوم القيامة، قال صلى الله عليه وسلم: 'أيما رجل تزوج امرأة على ما قل من المهر أو كثر، وليس في نفسه أن يؤدي إليها حقها خدعها ولم يؤد إليها حقها لقي الله يوم القيامة وهو سارق'. وفي رواية أخرى: لقي الله يوم القيامة وهو زان. [رواه الطبراني].
رابعًا: المهر هدية وليس ثمنًا للمرأة:
عندما رأى الغربيون والعلمانيون تصرفات المسلمين في عقود زواجهم وفي مهر بناتهم، وجهوا سهامهم إلى الإسلام وأخذوا ينالون منه ومن نظامه الاجتماعي وأخذوا يرددون ذلك ضمن معزوفة ألفناها جيدًا، وهي إن الإسلام أهان المرأة حين قرر لها مهرًا يؤديه الرجل إليها، فحولها إلى سلعة تباع وتشترى، وجعله جارية يملكها الرجل فيتصرف بها كما يشاء.
إن من إكرام الإسلام للمرأة أنه لم يجعلها رخيصة تباع وتشترى، يحصل عليها من يريد ويلقيها من يريد دون أن يكلف نفسه عناء أي شيء. إن من إكرامه لها أن أوجب على الرجل أن يقدم لها هدية من ماله الخاص كقيمة معنوية أكثر من كونها قيمة مادية، فهي كما ذكرنا عربون محبة وإخلاص ووفاء وبذل وتضحية وليست ثمنًا كما يحلو لأعداء الإسلام أن يصفوها.
وهل يجرؤ هؤلاء على القول: إن ثمن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وبناته كان 500 درهم فقط، وهل يجرؤ هؤلاء على القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم زوج امرأة بثمن قدره خاتم من حديد أو درع أو نواة من فضة. إن هذا ليس إلا افتراء يرد عليه ويكذبه كل حالات الزواج التي حصلت أيام نبينا صلى الله عليه وسلم. لم تشهد المرأة لا في العصور الجاهلية ولا في العصور الغابرة، ولن تشهد في العصور القادمة انحطاطًا كبيرًا كالذي تشهده في أيامنا بسبب الحضارة الغربية المتهافتة ودعاتها في بلادنا من العلمانيين والماديين والملحدين. وكفى بذلك ردًا على ما يقولون وما يدعون بحق هذا الدين الذي أنزله الله تعالى إكرامًا للبشرية جمعاء دون تمييز بين رجل وامرأة أو كبير وصغير أو غني وفقير أو قوي وضعيف.
خامسًا: إن كراهة غلاء المهور لا يعني تحديدها أبدًا:
إننا حين نتكلم عن وجوب التواضع في المهور وتيسيرها، فإن هذا لا يعني أبدًا أننا ندعو إلى تحديدها وحصرها في قيمة معينة لا يجوز تجاوزها ولا دفع ما هو أقل منها، بل إننا بذلك نحذر أن يتحول غلاء المهر إلى عرف عام شائع لا ينعقد الزواج بغيره ولا تبنى أسرة إلا على أساسه؛ لأنه في ذلك ظلم كبير لفقراء هذه الأمة الذين لا يملكون في هذه الدنيا سوى القليل من المال.
إن القاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي أنه [لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها] وأيضًا [لينفق ذو سعة من سعته].
فالإسلام يعترف بقدرات الإنسان المتفاوتة، وبعجزه عن القيام بأمور كثيرة، فأقام أحكامه على أساس يتوافق مع فطرة الإنسان واستعداداته وقدراته.
ولقد أدركت هذه الحقيقة امرأة مسلمة في عهد عمر رضي الله عنه حين أراد أن يجتهد في تحديد المهر كما اجتهد في تحديد الأسعار في الأسواق فوقف خطيبًا بين الناس ينهى أن يزيد الناس عن 400 درهم في المهر اقتداء بنبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، فوقفت هذه المرأة معترضة وقالت: 'يا أمير المؤمنين نهيت الناس أن يزيدوا في مهر النساء على أربعمائة درهم قال: نعم، قالت أما سمعت الله يقول: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20].
فقال: اللهم غفرًا، كل الناس أفقه من عمر ثم رجع وصعد المنبر وقال: 'أيها الناس أني قد نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على 400 درهم فمن أراد أن يعطي من ماله ما أحب فليفعل أو من طابت نفسه فليفعل'.
وعلى الرغم من أن هذه قد رويت بطرق معلولة، ولم يروها إلا أبو يعلى من طريق محمد بن إسحاق عن مجاهد عن الشعبي، إلا أن دلالاتها لتوحي بأن نساء هذه الأمة كن يدافعن عن حقوقهن ولا يسكتن عنها حتى ولو كان رأس الدولة الإسلامية هو الذي أخطأ في اجتهاداته بحقهن.
والقضية كلها مفادها أن لا تحديد في قضية المهر ولكن إطلاقها بما يتناسب مع ظروف كل مسلم وقدراته المالية.
فكل شرائع الإسلام قائمة على السير لا على العسر وعلى رفع الحرج، وحيث إن الزواج من سنن الحياة، فإن إدخال الحرج عليه بالمغالاة في المهر ونحوه إنما يعد تحديدًا من المجتمع لأمر لم يحدده الله ولم يحدده رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون مما يتنافى مع مقتضى التيسير الذي سنه سبحانه وتعالى وأمرنا به في قوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]. وفي قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
سادسًا: غلاء المهور يؤدي إلى نتائج خطيرة ومدمرة:
وأهم هذه النتائج ما يلي:
1ـ عزوف الشباب عن الزواج.
2ـ انتشار العنوسة في المجتمع الإسلامي.
3ـ انتشار الزنى والرذيلة كبديل عن الزواج.
4ـ ذهاب البركة والرحمة من البيوت والأسرة المسلمة.
5ـ تحول المجتمع بسبب التأخر في سن الزواج إلى مجتمع عجوز يعاني من مرض الشيخوخة.
6ـ تعرض الأسرة المسلمة إلى الأزمات الاقتصادية بسبب تراكم الديون عليها.
7ـ ظلم المرأة من زوجها إذا كان لا يخاف الله ولا يحفظ لها حقها، ولجوؤه إلى الخيانة لعجزه عن الطلاق بسبب المهر الغالي.
8ـ ضياع حق الورثة بعد موت الرجل بسبب مهر زوجته الذي يفوق ثروته.
9ـ انتشار قطيعة الرحم بسبب مواقف بعض الأزواج من أهل زوجاتهم الذين فرضوا عليهم مهرًا فاحشًا يعجزون عنه.
10ـ انتشار الكراهية بين الزوجين حين ينظر الزوج إلى زوجته على أنها تشكل عبئًا اقتصاديًا ثقيلاً لا يمكن التخلص منه بسهولة.
سابعًا: نظام المهر في الإسلام نظام رحمة للبشرية جمعاء:
إن من طبيعة المرأة وفطرتها أنها تحب أن تشعر أنها مطلوبة وأنها مرغوبة، وأنها تستحق من طالبها أن يبذل لها شيئًا نفيسًا عنده ليعبر عن حبه لها وتقديره لأنوثتها وجمالها.
لذلك نجد أن أعراف العالم بأسره قامت على أن يتقدم الرجل لطلب المرأة للزواج وليس العكس، اللهم إلا في حالات نادرة لا حكم لها، ولذلك أيضًا شرع الله عز وجل نظام المهر وجعله شرطًا لا يجوز التنازل عنه، اعترافًا بفطرة المرأة وطبيعتها، واستجابة إلى ما أودعه الله تعالى فيها من صفات ومميزات عاطفية.
ولقد خرج العالم الغربي عن هذا النظام وشرع نظامًا عرف بنظام الاشتراك في الأموال بين الزوجين، وفرض على الزوجة تحمل الأعباء مع الرجل قبل الزواج، ثم فرض عليها الإنفاق على نفسها من مالها الخاص، وأعطاها حق اقتسام نصف ثروة الرجل عند الطلاق ولو لم تكن مساهمة فيها.
ولا يخفى على الكثيرين أن هذا النظام قد ظلم المرأة ظلمًا كبيرًا بما فرضه عليها من واجبات مالية قد تعجز عنها ولا تقوى على القيام بها، وهو بالتالي قد ظلم الرجل حين أوجب اقتسام ثروته عند الطلاق، مما يعني اعتداء أحد الطرفين على الآخر، فلو جمع الرجل بعد زواجه ثروة كبيرة من عرقه وجهده، فإن النظام الغربي أعطى للمرأة حق سلب الرجل ما بناه لنفسه ولأولاده. وهذا ما دفع بالغربيين إلى العزوف عن الزوج واللجوء إلى المساكنة والزنى والإباحية.
منقووووووووووووووووووووووووول