عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة وفي ثوبها دخان الشارع الملتهب، نزعت حذاءها الأسود، سلخت جواربها السوداء وتأملت للحظة خيوط العرق على ساقيها، بعد الاستحمام قعدت تتناول الطعام مع والديها وأخويها الصغيرين.
دلفت إلى غرفتها، أرجاء الغرفة عبقة بروائح العود المحترق جيداً، جلست على الكرسي وتأملت زوجها المستلقي على السرير غافياً بخفة متناهية، وسمعت تنفسه الخافت، بدت غير مقتنعة بالمشهد هذه المرة، فكرت: (الأزواج يصلون من أعمالهم بعد وصول زوجاتهم، غالبا).
أغمضت عينيها فاختفى زوجها من الفراش وتلاشى في ضباب هش، عاد بعد لحظة من عمله، دخل الغرفة فسمعت تكسر ملابسه وراءها، انتظرت ليعانقها من ظهرها، عانقها فاستدارت إليه لتستـنشق نكهة الشمس الحارقة في ثوبه الأبيض.
كل يوم يصل من عمله في حافلة الموظفين غير المكيفة، هكذا كانت تتمناه..رجلاً حقيقياً، فيه رائحة الرجال الذين يأتون من الخارج وعلى أكتافهم غبار التعب وفي سحناتهم وعثاء العمل المضني، كانت تريد رجلاً.
قدمت له الطعام بينما كانت تـنزلق ساهمة تحت الغطاء في سريرها المبخر، ناولته أول لقمة بيدها المحناة وهي تدفع وجهها أكثر في ليونة المخدة، وحين بدآ حديثهما المؤنس أثناء الطعام رشفت رطوبة دموعها في سطح الوسادة.
***
بعد تناول العشاء مع والديها وأخويها الصغيرين، سارعت إلى غسل يديها على عجل ونظفت أسنانها جيداً بالفرشاة، منذ المساء وهي متلهفة للدور الجديد الذي حضّـرته لهذه الليلة.
وضعت يدها على باب الغرفة، هيأت ملامحها للمشهد الجميل وهي متلبسة بكل كيانها دورها الذي تمثله هذه الليلة، دخلت الغرفة ويدها تتحسس نحرها لإسكات تنفسها المتدافع.
توقفت وسط الغرفة، زوجها لم يعد بعد، لم يكن يتأخر عن العشاء، هـا! هناك رسالة صغيرة على نضد الزينة وتحت زجاجة عطرها المحبب لديه.
جمّـدت المشهد لحظات لتكتب الرسالة نيابة عنه وبيده هو، وبخطه الرجالي المجعد، ولم تنس محاكاة نبرة تفكيره الخشنة داخل ذهنها وهي تصيغ كلمات الرسالة.
كانت تنفذ المشهد بإتقان مذهل وبإحساس كأنه الحقيقة، كتبت - كتب -: (حبيبتي سعاد، أعتذر عن العودة للعشاء، سأعود في العاشرة.. محبتي).
انتبهت لخيالها في المرآة، سعادُ المرآة تنظر إليها متأملة، ابتسمت بخجل وتحركت نحو خزانة الملابس، اختارت ثوب النوم الوردي، رشت عطرها فوق صدر الثوب ووضعت منه على عنقنها وخديها، جلست على حافة السرير تنتظر وكانت متلهفة بشدة، شعرت بارتعاش فمها وخدر دافئ يسري في أطرافها.
دخل، نهضت، سقطت الوسادة من حجرها، وطئتها وهي تخطو إليه، عانقته مباشرة لتتفادى اضطرابها وتلعثمها، أحست صدره ألين من مخدتها المعطرة، رفعت يدها تتحسس وجهه برقة متناهية وعينين حالمتين، مست لحيته.. إنه رجل، إنه زوجها.. زوج حقيقي بلحية كلحى الرجال الذين تشاهدهم في الشارع وهم راجعون إلى بيوتهم ليقبلوا زوجاتهم، قبلها على خدها، قبلة خافتة مشحونة بأحاديث كثيرة.
***
في الصباح كان أثر القبلة ينبض في خدها بمس لطيف، همت بلمس خدها ولكنها خجلت فقامت مسرعة لتناول الإفطار مع والديها وأخويها الصغيرين.
***
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة وفي حلقها دخان الشارع الملتهب، وفي صدرها نار لا تخبو، عـقب الاستحمام جلست لتناول الطعام مع والديها وأخويها الصغيرين.
دخلت الغرفة، كان مستلقياً في السرير، مستنداً إلى الوسائد يقرأ كتاباً، التـفـت إليها، ابتسم، ابتسمت، وفجأة أحست بالضجر، فكرت في مشاهد أجمل وصور جديدة.
***
سعاد في مشغل الخياطة منهكة من يوم العمل، قِطع الخيوط الملونة عالقة بثوبها، أجفانها متعبة من تحديد عين الإبرة، أطراف أناملها محفورة وأظفارها مهشمة.
***
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة، وفي ثوبها دخان الشارع الملتهب...
***
عادت سعاد وفي وجهها جمر الظهيرة، وفي ثـ وبـ ها.. د خـ ا ن الـ شـ ا.. رع..