الأفكار المسبقه وأسس بناء الوعي
يشكّل الوعي ميزة الإنسان الأساسية التي يتكئ عليها في ممارسة الحياة والحفاظ عليها دون بقية الموجودات؛ فمنذ اللحظة التي ينشأ فيها الارتباط بين الإنسان والعالم فإن الوعي يبدأ بالفاعلية، ويشرع بتكوين تراكم من المدركات والمعارف تعكس طبيعة تفاعله مع العالم، أو لنقل (نمطاً من الفكر والعمل المتسق مع بعضه البعض بدرجةٍ أو بأخرى) بالنسبة للفرد، ويسمى مقابله (ثقافة) بالنسبة للجماعة.
إن عملية التكوّن الثقافي عملية متواصلة لا تعرف التوقف، تلاحق هدف الإنسان الرئيسي، وسعيه لإغناء الحياة وترسيخها، ذلك الهدف الذي لا ينجز إلا عبر تواصل عملية الوعي، وتعميقها، غير أن هذا الوعي الذي يمارسه الإنسان سيتأثر بأدوات تكوينه، تلك الأدوات التي تمثل النافذة التي يطل منها على العالم الخارجي؛ ولذا فإن الوعي سيكون ذا أثر مزدوج؛ فهو من جهة عملية تعرّف وإدراك للعالم، لكنه من جهة أخرى عملية محددة بأطرٍ وحدود القائم بها هو الإنسان؛ فهنالك أثر إيجابي يترتب على نفس الوعي؛ كونه عملية إدراك وتعرّف على العالم، وأثر آخر سلبي ينشأ عن محدودية أدوات الإدراك، كالحواس وطبيعة العقل الذي يرتبط بنوع الإنسان.
ولهذا فإن لكل وجه من وجهي الوعي انعكاساً على واقع الإنسان وحياته، فإذا كان الوعي يشبه عدسة تنقل بتواصل صور العالم الخارجي، فإنها حينئذٍ لا تنقل إلا صوراً محدودة، وتبقى حقيقة العالم الواسعة محجوبة؛ فلا يأخذ الإنسان إلا الجزء الذي تناله حواسه، ومعه ذلك الجزء الذي يركبه بواسطة عملياته العقلية.
وبعبارة أخرى فإن الوعي ذو جانب إيجابي غاية في الأهمية؛ لأنه النافذة التي يتعرف الإنسان من خلالها على أشياء تتعدى ذاته الفردية، وهناك جانب سلبي، لأن هذه النافذة محدودة وعاجزة عن نقل الواقع الخارجي بموضوعية تامة؛ مما يقود إلى الغلط في أحيان كثيرة.
فالوعي إذاً سيقف وراء بقاء الإنسان وحفظ نوعه وتشكيل حضارته، لكنه من جهة أخرى يساهم في خلق أنواع من الصعوبات والمشاكل والاحتراب واضطهاد بعض بني الإنسان لبعضهم الآخر، بل وفي بعض الأحيان يقف وراء حالات التخلف والتردي المترتبة على محدودية الوعي وتخالف الرؤى والأفهام.
دائرة الموضوعية في الوعي
إن كل الآثار السالبة التي أشرنا إليها تنشأ من محدودية الوعي، وعجزه عن الإدراك الكامل لحقائق الأشياء، سواءٌ كانت هذه الأشياء بشراً أو بعض مفردات الطبيعة، ونستطيع أن نرى ذلك بوضوح بمجرد إلقاء نظرة على طبيعة الإدراك البشري الذي نجده يتغذى من مصدرين لا يخلوان من عجز عن الوصول إلى الموضوعية، وهما:
أولاً- المصدر الفطري:
وهو يعتمد على نوعين من أنواع المدركات، هما البديهيات وهي المدركات التي يدركها الإنسان بصورة فطرية، ولا يحتاج للوصول إليها لكسب أو نظر، وهي مشتركة لدى جميع أبناء البشر، والنوع الآخر هو المدركات الحسية، وهي أيضاً تنتقل إلى الذهن بمجرد اتصال الحواس السليمة بالعالم الخارجي.
ونلاحظ هنا أن دائرة الغلط في البديهيات غير موجودة، بينما هي موجودة باحتمال محدود في دائرة الحسيات، وحدودها في العين - مثلاً - عندما ينظر الرائي إلى سمكة في الماء فيراها أقرب مما هي عليه في الواقع.
ثانياً- المصدر الكسبي:
وهو الدائرة الأوسع من المعارف التي يعمد الإنسان إلى تركيبها من خلال تركيب الصور الواردة إليه من أدوات الحس، وبالاعتماد على البديهيات، لتكوين معارف جديدة، وهذه الكسبيات هي التي ستغدو طبقة فوقية بالنسبة للبديهيات والحسيات؛ ولهذا فهي تتأثر بقوة بنوعية الإنسان الذي يمارس عميلة التركيب، وهو ما يعادل وجود فضاء واسع للغلط، وخصوصاً إذا كان الموضوع ليس من التجريبيات.
وإلى حد الآن فإننا رأينا حالة من التدرج في مساحة الغلط، إذا كانت بالنسبة للبديهيات معدومة فهي توجد بنسبة ضئيلة وقابلة للتشخيص في الحسيات، على حين تكون واسعة جداً في الكسبيات؛ وهذا يعني أن خللاً أصيلاً ينتهي إليه وعي الإنسان، وبالتالي فإنه غير قادر - وهو بوضعه الحالي - على الوصول إلى الصورة الموضوعية الكاملة عن العالم، فهل هذا يعني أن القدر حكم على هذا المخلوق الراقي بالعمى الجزئي إلى الأبد، ليبقى نهباً لاحتمالات الوعي أحياناً، أو الاختلاف والتصارع في أحيان أخرى؟ وكيف يمكن للإنسان الذي تكمن كل قوته في عقله الذي هو سرّ كماله أن يكون بهذه الكيفية؟!.
هذه أسئلة مشروعة يستشعر الإنسان مشروعيتها بمجرد أن يشيح بوجهه عن الإنجازات العظيمة التي أنتجها الوعي البشري، عندها سترى التاريخ والحاضر يعج بنماذج التردي التي نرى فيها ملايين البشر يسجدون لأصنام لا تضر ولا تنفع، أو نرى الملايين من بني الإنسان يذبح بعضهم بعضاً لأسباب مهما كانت عظيمة فإنها تافهة إذا وزنت بقيمة الأرواح التي أزهقت في سبيلها.
وجها الحقيقة
إذا كان الوعي الإنساني قابل للتشكل بأكثر من طريقة، فهل يستطيع أحدٌ ما أن يدّعي بأن جميع أشكال الوعي (صحيحة)؟ مع أننا نلمس انجرار هذا الوعي في أحيان كثيرة إلى حالة من العمى، ونلمس عجزه عن تحديد وتبني علاقات سليمة مع مواضيع غاية في القرب والوضوح، فإن (الفيجيون(أ) أكلة لحوم البشر لا يكترثون لحياة الناس ويعيشون في خوف دائم من بعضهم البعض، ويحسبون البوق (وهو الغدر) من الشمائل الكريمة، وليس سفك الدم في نظر الفيجي جناية بل شرفاً، فهم يقتلون المقعدين والعجزة والمرضى ونحو ثلثي مواليدهم، وأما من بقي منهم حياً فأول درس يتلقنه أن يضرب أمه، وهم يئدون العبيد بجانب القوائم التي يبنى عليها بيت مليكهم، ويذبحون عشرة منهم أو أكثر على ظهور ركوه (زورق) جديدة ينزلونها إلى الماء تعميداً لها بدمائهم، ويخنقون نساء الأمير وحجّابه وأمنائه عند موته تشريفاً وتكريماً، وعادة أكل اللحم البشري منتشرة عندهم إلى حد أن أميراً من أمرائهم رثى ابنه، فبين أنه لا يحجم عن قتل نسائه وأكلهن إذا ما أغضبنه، وهم في بعض الأحيان يشوون فرائسهم البشرية أحياء قبل أن يبتلعوهم) .
هذه الممارسات الفظيعة والسلوكيات الوحشية تمارس على أساس خلفية ثقافية خاصة ووعي خاص للوجود ولعلاقة الإنسان ببقية بني جنسه، تجعلها تبدو بنظر أصحابها صحيحة ولا تحتاج إلى تبرير أو اعتذار.
وبالطبع فإن الفيجيين الذين ضربنا بهم المثل ليسوا النموذج الوحيد، بل هناك نماذج أخرى كثيرة، بعضها معاصر والبعض الآخر بائد، لكن التاريخ سجل لنا ملامحه، ولا يخفى على أحد ما كان سائداً في الحضارات القديمة، من تقديم البشر كقرابين للآلهة، كالحضارة المصرية الفرعونية التي كانت تضحي بعدد من الفتيات بإلقائهن بماء النيل تفادياً لغضب الآلهة واستجلاباً لرضاها، ومعروف أيضاً وأد عرب الجاهلية لبناتهم (وإذا الموؤدة سئلت بأي ذنب قتلت) وهناك الكثير من الشعوب والثقافات إلى اللحظة الراهنة لا تزال تمارس الكثير من الممارسات التي تجانب الصواب، وتحط من كرامة الإنسان وتسيء إليه فرداً كان أو جماعة.
غير أن هذا ليس حالة عامة ولا حالة دائمة؛ لأن الثقافة حالة متحركة لا تعرف التوقف، كما أنها - غالباً - ما يتجاوز فيها مظهر السلب إلى مظهر الإيجاب، وغالباً ما يطغى أحدهما على الآخر ليحتكر تمثيل وجه الثقافة، لكنه لا يلبث أن يتحرك باتجاه مزيد من السلب، أو مزيد من الإيجاب؛ وقلما توجد حالة كاملة، أو أننا لا نزال ننتظر هذه الحالة الكاملة.
ولذلك (ثبت لنا في السابق بالوثائق تباين الثقافات بدرجة تفوق التصور، ويكشف هذا التباين عن مرونة النوع البشري، وأن هذه المرونة، أي القدرة على التشكل بفعل حياة المجتمع الذي يولد فيه الإنسان، هي الخصوصية الكلية الأهم لدى الإنسان، وهي القسَمَة الحاسمة التي تميز الإنسان عن الحيوان) .
فالتعدد في الثقافات البشرية عبارة عن تعدد في طرق ومسارب حركة الفكر التي يمكن له أن يسلكها بمجرد سعيه لسبر أغوار العالم، ومحاولة التعرف على حقيقته. إن هذه الحركة تشبه حركة الماء المراق على الأرض عندما يأخذ بالانتشار بكل الاتجاهات الممكنة ما لم يمنعه مانع؛ فالفكر يتحرك في الفضاءات التي تواجهه ما لم تحد من حركته موانع، كما أنه قابل لأن يتوجه وجهة خاطئة إذا ما تم فرض هذا التوجه عليه، وإذا وضعنا في اعتبارنا علاقة هذا الفكر بحركة الواقع، وكونه القوة التي تجر الحياة البشرية وراءها بأي اتجاه سارت، عرفنا خطورة وأهمية عملية تشكيل الأفكار وخطورة الأغلاط التي يقترفها الوعي وهو يحدد علاقته بموضوعاته.
فالأغلاط في اعتبار ما ليس بحقيقة حقيقة تقود في المآل إلى تعدد هذه الرؤى بالنسبة لموضوع واحد؛ فينفرد كل إنسان بالاعتقاد بأن ما لديه حقيقة، بينما لا يشاركه الآخرون هذا الاعتقاد؛ وسرعان ما يدب الاختلاف ويبدأ التناحر، خصوصاً إذا سيطر الانغلاق والتعصب على الأجواء.
ومن هنا فإننا إزاء حقيقة ذات وجهين؛ فالتعدد المعرفي جزء أصيل من أجزاء الحياة الإنسانية، ويعبر عن سعي الإنسان لمعرفة الحقيقة، لكنه من جهة أخرى يفضي إلى الصراعات والاحتراب فكيف ينشأ هذا التعدد؟!.
>>> يتبع
__________________
اليوم حماهـ تذبح مره اخرى .. اللهم عليك بالطاغية واعوانه .. اللهم اهلكهم و سلط عليهم .. اللهم ارنا عجائب قدرتك فيهم
في هالزمن تقدر تقول أن المثلث مستقيم وشي طبيعي لو تقيس الدائرهـ بالمسطرهـ !!