لؤلؤة الليل |
09-04-2008 03:55 PM |
 |
|
 |
|
* بيئة التحرش :
يبدو أن الظروف الحياتية الحالية تمثل ما يمكن أن نطلق عليه " بيئة محرضة على التحرش " ونذكر منها ما يلى :
1 - الإذدحام : فحين تتقارب الأجساد إلى درجة الإلتصاق فى البيت والشارع والمواصلات والمدارس والجامعات والنوادى والشواطئ وفى كل مكان فإن هذا يشكل أرضية مهيجة ومنشطة لدوافع التحرش لدى المهيئين لذلك , وربما لدى غيرهم لممارسة التحرش . وهناك لدى علماء الإجتماع ما يسمى بالمساحة الحضارية وهى المساحة التى يتحرك الفرد فيها داخل المجتمع , ومن المعروف أنه كلما تقلصت هذه المساحة الحضارية كلما كثرت الإحتكاكات والمشكلات فى التعامل بين الناس وزادت الميول العدوانية .
2 - اقتراب الجنسين فى كل مكان : فنظرا لخروج الفتيات والنساء للدراسة والعمل فقد أصبح الحضور الأنثوى والإقتراب الأنثوى أحد مظاهر الحياة الحالية , وفى غياب الإشباع الكافى لاحتياجات الجنسين وغياب القيم الأخلاقية والدينية , تندفع النفوس المحرومة والمنفلتة تخطف ماليس من حقها متعللة بالحرمان أو القرب .
3 – العشوائيات : وهى بيئة تجمع بين الإذدحام والفقر والحرمان والتلوث البيئى والأخلاقى , ولذلك فهى بيئة نموذجية لتصدير كل الأمراض والتشوهات الأخلاقية والإجتماعية إلى بقية قطاعات المجتمع وطبقاته .
4 - الخطاب الدينى والإعلامى : فالخطاب الدينى المتشدد الذى يصور المرأة على أنها جسد مدنس مسكون بالغواية والإغراء ويجب إخفاءه أو وأده بعيدا عن الأنظار , هذا الخطاب يجعل المرأة جسدا مرغوبا بالفطرة الطبيعية لدى الذكور ومكروها ومحتقرا فى نفس الوقت لدنسه وغوايته . وهذه التركيبة تشكل أرضية للتحرش فالمتحرش هنا يتوق إلى هذا الجسد ويرغبه وفى نفس الوقت يخافه ويحتقره . والخطاب الإعلامى على الرغم من تناقضه مع الخطاب الدينى المتشدد إلا أنه يصل تقريبا إلى نفس النتيجة فهو يعرض جسد المرأة عاريا ويستخدمه للترويج للسلع والأفلام والمسرحيات والأغانى فيبعث برسالة إلى المشاهد مفادها أن المرأة عبارة عن جسد جميل ملئ بالإغواء والإغراء ونداءات المتعة . إذن فكلا الخطابين يصلان إلى نتيجة واحدة (على الرغم من تناقضهما الظاهرى) مفادها أن المرأة ليست كيانا إنسانيا جديرا بالإحترام والحب والمودة والرعاية وإنما هى كائن شيطانى ملئ بألوان المتعة والغواية . ولهذا نجد المتحرش يحمل فى تكوينه كلا من الرغبة الجنسية والعدوان تجاه المرأة التى يتحرش بها فهو يريد أن يستمتع بجسدها دون اعتبار لها كإنسانة محترمة , فيخطف منها ما يريد ويتركها هملا بلا أى اهتمام أو رعاية .
5 - المسكرات والمخدرات : وهى تساعد الشخص على إخماد قوى الضبط النفسى والأخلاقى , وبالتالى تحدث لديه حالة من الإنفلات وحالة من غيبوبة الضمير .
* نماذج التحرش :
يأخذ التحرش أحد الصور التالية :
1 – تحرش فردى: مدير مع سكيرتيرته , موظف مع زميلته , مدرس مع تلميذته ..... الخ .
2 – تحرش جماعى : ويحدث حين يتجمع عدد من الأشخاص حول ضحية , وخطورة هذا النوع أن التجمع يعطى حالة من الجرأة وعدم الشعور بالمسئولية الفردية وربما يدفع للتنافس بين المتحرشين فيأتون بأفعال يصعب قيام أحدهم بها على المستوى الفردى , وهذا ما حدث فى التحرش الجماعى فى وسط القاهرة أمام سينما مترو وفى شارع طلعت حرب فى عيد الفطر 2006 وأحدث حالة من الهرج والمرج والهلع الشديد لدى الضحايا ولدى غيرهم إذ ظهر الشباب المتحرش فى حالة انفلات غرائزى شديد ومتبجح وغير معتاد فى المجتمع المصرى .
3 – تحرش سلطوى : ويتم فى الدول البوليسية المستبدة حيث يقوم الجهاز الأمنى بالتحرش بالمعارضين أو التحرش بزوجاتهم أو بناتهم بهدف نزع الإعترافات أو الضغط النفسى الشديد عليهم , وقد يتجاوز الأمر من التحرش إلى الإنتهاك أو الإغتصاب , وهذا يشكل قمة العدوان على كرامة الإنسان لأنه يصيبه فى شرفه وكرامته وكيانه الإنسانى يهدم فيه كل هذه المعانى . ويكثر التحرش الجنسى السلطوى تجاه المعارضات من الفتيات والنساء حيث يعلم النظام السلطوى المستبد حساسية هذه الأمور بالنسبة لأى فتاة أو امرأة فيعمد إلى تسليط أعوانه للتحرش بالمعارضات فى المظاهرات أو أثناء الإنتخابات وذلك لبث الرعب فى نفوسهن ونفوس غيرهن . وهذا التحرش السلطوى يحدث حين تنحدر أخلاقيات النظام الأمنى والسياسى إلى الدرك الأسفل من السلوك , وهو دلالة على فقد الشرعية وعلى فشل هذا النظام فى التحاور والمنافسة الشريفة .
4 – تحرش عكسى : وهو يعنى أن تتحرش الأنثى بالرجل , وهو عكس المعتاد من تحرش الرجل بالأنثى على أساس أن الرجل هو الأقوى جسديا وهو المبادر بالتحرش فى أغلب الأحيان بسبب طبيعته الذكورية , ومع هذا نجد نماذج من تحرش المرأة بالرجل خاصة لو كانت أكبر سنا أو أكثر خبرة أو أعلى فى المنصب أو المكانة الإجتماعية , أو امرأة مسترجلة , أو لديها ميول جنسية مضطربة أو سادية النزعة .
* سيكولوجية التحرش :
سوف نتتبع التركيبة النفسية لعملية التحرش على المحاور التالية :
1 – المتحرش : قد يكون المتحرش من النوع السادى الذى لا يستمتع بالعلاقات الجنسية العادية وإنما يسعده أن يأخذ ما يريده من الطرف الآخر بقدر من العنف والإجبار والقهر ,أو يكون من النوع الإستعرائى الذى يجد متعته فى استعراض أعضائه التناسلية أمام الضحية ويستمتع بنظرة الدهشة والإستغراب والخوف على وجه من يراه وكثير منهم تحدث له النشوة ويقذف لمجرد حدوث هذه الأشياء .وهناك النوع التحككى الذى يجد متعته فى الإلتصاق بالضحية فى الزحام والتحكك بها حتى يصل إلى حالة النشوة والقذف .أما النوع الهستيرى فيغلب وجوده فى النساء حيث تتحرش المرأة الهستيرية بالإغواء والإغراء للرجل الضحية لفظيا وجسديا حتى إذا تحرك نحوها صرخت واستغاثت بمن حولها لإنقاذها من هذا الحيوان الذى يريد اغتصابها , والشخصية الهستيرية تفتقد للثقة بنفسها لذلك تسعى للإغواء والإيقاع بالضحية لكى تطمئن على قدرتها على ذلك ثم تتعمد توسيع الدائرة لكى يعلم عدد من الناس كم هى مرغوبة ومطلوبة وكم هى جذابة لدرجة تخرج الناس عن طورهم . كل النماذج السابقة تعتبر نماذج مرضية مضطربة , والتحرش لا يقتصر على تلك النماذج بل يمكن أن يحدث من أشخاص عاديين فى ظروف تشجعهم على ذلك , وهذا ما نسميه " التحرش العرضى " أو " التحرش الموقفى " , بمعنى أنه سلوك عارض فى حياة الشخص أو سلوك ارتبط بموقف معين وليس بالضرورة أن يتكرر , على عكس التحرش المرضى الذى سبق وفصلناه ففيه الفرصة للتكرار لأن وراءه دوافع متجددة تدفع الشخص للتورط فيه من آن لآخر . وكون التحرش مدفوع باضطرابات مرضية لا يعفى صاحبه من المسئولية كما قد يظن البعض أو يتخوف , وإنما ربما يفسر لنا ما يحدث وينبهنا لإمكانية تكرار حدوثه , وربما فقط يخفف العقوبة فى بعض الظروف .
2 – المتحرش بها : قد تكون التحرش بها عرضيا أو موقفيا بمعنى أنه يحدث فى ظروف معينة وأنها لا تقوم بسلوكيات مقصودة أو غير مقصودة تدفع لتكرار التحرش . أما القابلية لحدوث التحرش وتكراره فتكون أكثر فى الشخصيات الهستيرية والتى تقوم بالإغواء كما ذكرنا لتثبت لنفسها أولا وللآخرين ثانيا أنها جذابة ومرغوبة وهى لذلك تحرص على التشهير بمن تحرش بها على الرغم من أنها لعبت دورا أساسيا فى حدوث التحرش فهى جانية ومجنى عليها فى ذات الوقت , وهذه الشخصيات لديها تاريخ طويل فى تحرش الناس بها فتحكى أن والدها قد تحرش بها وكذلك أخيها الأكبر وزميلها فى المدرسة ومدرسها الخصوصى والطبيب الذى يعالجها ورئيسها فى العمل , وكأن الرجال كلهم يتحرشون بها لفرط جمالها وجاذبيتها على الرغم من أن الشخصية الهستيرية تعانى فى داخلها من البرود العاطفى والجنسي لذلك تحاول أن تعوض ذلك بسلوك إغوائى .وهناك الشخصية السيكوباتية التى تدفع الآخرين للتحرش بها بهدف ابتزازهم وتحقيق مصالح معينة من هذا الإبتزاز , وقد يحدث هذا فى مجالات السياسة أو مجالات الجاسوسية أو فى وسط رجال الأعمال. أما الشخصية الماسوشية فهى تستمتع بالإهانة والإذلال والعنف الذى يمارسه المتحرش ضدها فلديها إحساس عميق بالذنب والإنحطاط وانعدام القيمة وأنها جديرة بالقهر والإذلال والإمتهان وهى تشعر بالراجة حين يمارس ضدها أى عنف جنسى أو جسدى , وهى لا تميل إلى الشكوى أو التشهير بالمتحرش ( كما تفعل الشخصية الهستيرية ) وإنما تكتفى بما تحصل عليه من إهانة وقهر وإذلال .
3 – الإحتياجات : وضع عالم النفس الشهير أبراهام ماسلو ما يسمى بهرم الإحتياجات فوضع فى قاعدته الإحتياجات الأساسية ( أو البيولوجية ) وهى الطعام والشراب والمسكن والجنس , ويعلوها الإحتياج للأمن ويعلوه الإحتياج للحب , ويعلوه الإحتياج للتقدير الإجتماعى , ويعلوه الإحتياج لتحقيق الذات , ويعلوه الإحتياجات الروحية . فإذا فقد الإنسان أحد هذه الإحتياجات أو بعضها أو أغلبها فإنه يسعى لإشباعها من نفس نوع الإحتياج إن وجد أو من احتياج آخر أعلى أو أدنى حسب ما يتاح له . فمثلا إذا فقد الإنسان الحب أو فقد التقدير الإجتماعى أو فقد القدرة على تحقيق ذاته ,أو فقد القدرة على التواصل الروحى فإنه ربما يلجأ إلى التحرش أو الإنغماس فى الجنس أو القمار أو المخدرات فى محاولة منه لسد فجوة الإحتياج المفقود . وقياسا على هذا نستطيع القول بأن الشباب الذين قاموا بالتحرش الجماعى فى وسط القاهرة كانوا يفتقدون ربما الإحساس بالكرامة أو الإحساس بالقيمة أو الإحساس بالحب أو الإحساس بالأمان أو فقدوا القدرة على الإشباع الجنسي بطريق شرعى فانطلقوا يعوضون هذه الإحتياجات المفقودة من خلال التحرش .
4 – الدوافع والضوابط : يتميز الإنسان الطبيعى بحالة من التوازن بين الدوافع والضوابط , وهذا ما يجعله يتمكن من السيطرة على دوافعه بناءا على الإعتبارات الدينية والأخلاقية والإجتماعية . وضوابط الإنسان ليست كلها داخلية متمثلة فى الضمير الشخصى , ولكن هناك الضابط الإجتماعى المتمثل فى ضغط الأعراف والتقاليد , وهناك الضابط القانونى الذى يمثل نوعا من الردع خاصة لأولئك الذين لم يردعهم الضمير ولم تردعهم الأعراف والتقاليد الإجتماعية . وإذا ضعف أى من هذه الضوابط أو ضعفت كلها , أو طغت الدوافع فإننا نتوقع خروج الرغبات ( العدوانية والجنسية ) فجة ومتحدية ومهددة للسلام الإجتماعى .
* الآثار النفسية للتحرش الجنسي :
هناك آثار سريعة تظهر مباشرة أثناء حالة التحرش وتستمر بعدها لعدة أيام أو أسابيع وتتلخص فى حالة من الخوف والقلق وفقد الثقة بالذات وبالآخرين وشعور بالغضب من الآخرين وأحيانا شعور بالذنب . والشعور بالذنب هنا يأتى من كون المرأة حين تتعرض للتحرش كثيرا ما تتوجه لنفسها باللوم وأحيانا الإتهام , ولسان حالها يقول لها : " ماذا فعلت لكى يفكر هذا الشخص فى التحرش بك ؟ " .... " يبدو أن فيك شيئا شجع هذا الشخص على أن يفعل ما فعل " .... " يبدو أنك فعلا سيئة الخلق وعديمة الكرامة " ..... " لماذا طمع فيك أنت بالذات ؟؟ " ..... " إنه يظن أننى من أولئك النساء الساقطات " .... " هل يكون قد سمع عنى شيئا شجعه على ذلك ؟؟؟ " .
وهناك آثار تظهر على المدى الطويل وتتمثل فيما نسميه بكرب ما بعد الصدمة خاصة إذا كان التحرش كان قد تم فى ظروف أحاطها قدر كبير من الخوف والتهديد للشرف أو للكرامة أو لحياة الضحية وسلامتها , وهنا تتكون ذاكرة مرضية تستدعى الحدث فى أحلام اليقظة أو فى المنام وكأنه يتكرر مرات كثيرة كما يحدث اضطراب نفسى وفسيولوجى عند مواجهة أى شئ يذكر الضحية بالحدث , ويتم تفادى أى شئ له علاقة بالحدث , ويؤدى ذلك إلى حالة دائمة من الخوف والإنكماش والتردد وسرعة التأثر . كما أن الضحية تفقد قدرتها على الإقتراب الآمن من رجل , وإذا تزوجت فإنها تخشى العلاقة الحميمة مع زوجها لأنها تثير لديها مشاعر متناقضة ومؤلمة .
يتبع
|
|
 |
|
 |
|