أقسى من الطلاق ....
بالرغم من مرور سنوات على تلك الحادثة .. إلا أنني أتذكرها جيدا ولا يمكن أن أنساها ...
كنت معلمة مستجدة في مدرسة ابتدائية ، أخطو خطواتي الأولى في مشواري الوظيفي...
هبطت درجات السلم بكل حيوية ونشاط وأنا في طريقي لمكتب المديرة التي طلبت مني
دفتر التحضير ...
ما أن دلفت من الباب حتى وقعت عيني على امرأة شابة لم تتجاوز الخامسة والعشرين من عمرها ...
وكان يبدو أنها قد دخلت قبلي مباشرة ...
كانت تتحدث إلى المديرة بتوتر ملحوظ ولهفة لا يمكن أن يغفل عنها الناظر إليها ...
قالت بلهجة قروية بسيطة : بالله عليك يا أبلة ماعندكم طالبة في أولى ابتدائي اسمها
طيف ال....... (( اعتذر عن ذكر الاسم بالكامل))
قالت المديرة باستغراب : لحظة سأبحث لك عن هذا الاسم .... تفضلي بالجلوس .
جلست المرأة وقد بدأ قلقها في تزايد ملحوظ....
سألتها المديرة وهي تقلب في كشف الاسماء الخاص بالطالبات :
وما صلتك بها ؟
قالت وقد غلبتها دموعها : أنا أمها !!
حينها وقعت عينا المديرة على اسم التلميذة المطلوبة ... فقالت : طيف ال..... أولى /ج
فانفرجت أسارير الأم وقالت بلهفة وهي تمسح دموعها بطرف عباءتها : أبي أشوفها الله يخليكي
ولا يحرمك من عيالك ..
نادت المديرة على المراقبة وطلبت إليها أن تحضر طيف .
عندها استطردت الأم بالحديث دون أن تنتظر أي سؤال ....
قالت بأسى : طلقني أبوها ولم تكمل الشهرين بعد وحرمني من رؤيتها ..
قال لي بالحرف الواحد : انسي ان عندك بنت اسمها طيف ...
ومنذ ذلك اليوم بدأت معاناتي من البعد عنها ...
كنت أتمنى رؤيتها وضمها إلى صدري ولكن ... لم أكن أراها إلا كطيف يمر بي في احلامي ...
كنت أعد الشهور والسنين حتى عرفت ان ابنتي قد أصبحت في سن الدراسة..
لقد مررت بسبع مدارس ابتدائية في هذا الحي بحثا عن ابنتي ..فأنا أعرف أن أهل والدها يسكنون
في هذه المنطقة حتى وجدت ابنتي هنا ...
سألتها : وهل استسلمت هكذا بدون أي مقاومة أو محاولة التوصل إلى حل مع والدها؟
قالت : وماحيلتي أنا وحدي دون مساعدة ... فأهلي يرفضون بشدة ان يخضعوا أنفسهم له..
كما يشعرونني دائما بأنني حمل ثقيل على أكتافهم وأن الأمر لا يحتمل أن يتحملوا ابنتي معي ..
أقبلت المراقبة ومعها الطفلة .. نادتها المديرة بلطف : تعالي لتري ماما ..
فهبت الأم من مكانها وجثت على ركبتيها وهي تحتضن الطفلة وتقبلها وتبكي ...
وافرغت الكيس الذي كانت تحمله بيدها وقدمت للطفلة هدايا مغلفة وحلويات ...
كل هذا ... والطفلة البريئة تنظر باستغراب ودهشة حتى فجرت مفاجأتها قائلة:
ولكن بابا يقول أن ماما ماتت من زمان!!
عندها لم استطع أن استمر في حبس دموعي ، ووجدتنا نبكي جميعا ...
كلما تذكرت هذه الحادثة أجد نفسي أفكر وأفكر ..
ترى كم يوجد في هذا العالم من أم قاسية وأب ظالم ؟؟
كم يوجد من ابن أو ابنة يعيشون في هذه الحياة كما تعيش طيف ؟
طيف التي لا تعرف عن أمها سوى أنها ماتت وأنها لم تعد إلا مجرد طيف يمر بها ....
و رغد المسكينة ؟؟ التي أرغمت على العيش غريبة عن موطنها مع والدتها التي لاذت بالفرار بعيدا ..
لتحرم والدها منها انتقاما منه وتنكيلا به ....
أما هشام والد رغد فقد هشمه الهم والكرب وآل به إلى مريض نفسي ، لا يجد للحياة لذة ولا معنى
بعد أن كان في رغد من العيش ...
وذلك الطبيب الناشيء الذي التقى بأبيه المريض صدفة في قسم الطواريء بالمستشفى التي يعمل بها ...
هاني الذي عاش سبعا وعشرين عاما لم يكتب له فيها أن يهنأ بالعيش مع أبيه سوى لحظات رقوده على السرير .
وهاهي سارة تزف إلى زوجها في حفل بهيج قد اكتظ بالقاصي والداني من الحضور .. وخلا من والدتها التي لا تبعد عنها سوى عدة شوارع ....
والدة سارة لم تسر برؤية ابنتها عروسا في ليلة زفافها.. وهي التي طالما حلمت بهذا اليوم منذ أن كانت سارة جنينا في أحشائها ،
وهناك الكثير تحت هذا السقف الكبير ... ممن يتجرعون مرارة القسوة ويتلظون من نار الحرمان
قد تظن _أيها القاريء الكريم_ أنني أبالغ وأنني من هواة متابعة المسلسلات ....
ولكن هذا هو الواقع ... بل إن مؤلفي القصص التلفزيونية لم يبدعوا من فراغ ... إنهم ينقلون الحياة المريرة بكل تفاصيلها
كنت أظن أن الطلاق هو أقسى ما يمكن أن تتحمله المرأة حتى وإن كان راحة لها من زوج ظالم ...
فنظرة المجتمع للمطلقة ... والقيود التي تفرض عليها دون ذنب أو خطيئة ... وضياع فرصتها في الحياة بسعادة
كلها أحكام قاسية وأليمة تظلم المرأة .. وتجعلها مكسورة الجناح
ولكني وجدت ماهو أقسى من الطلاق ..
الأقسى ... هو أن تحرم أم من وليدها إلى الأبد وتظل تعاني من لوعة فقده وهو حي وليس بميت ينسى
الأقسى ... هو أن يعيش أب كالمهزوم في معركة وقد اقتسم خصومه ابناءه غنائم لهم ..فلا اصطبح ولا أمسى
الأقسى ... هو أن تتحول المودة والرحمة بين زوجين بالأمس إلى ثأر وانتقام اليوم ... ليغدوا الأطفال ضحايا وأسرى
الأقسى ... هو أن يكتشف رجل أو امرأة بعد عمر وحياة طويلة أنه قد كان له بابا مفتوحا للجنة .. وأغلق ، بفوات بر أحد والديه فلا ينفع حينها ندم ولا حسرة
وختاما...........
عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : قدم على النبي – صلى الله عليه وسلم – سبيٌ ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبياً فأخذته ، فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم - : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا : لا وهي تقدر أن لا تطرحه ، فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها " البخاري 5999 . - 3 .
عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب لنا مثالا لرحمة الله بعباده _ ولله المثل الأعلى _
لم يجد أبلغ ولا أقرب من رحمة الأم بولدها ...
ليس لأحد مكان أرحب ولا أوسع من صدر أمه ..
ومامن محبة وعطاء أكبر وأجزل من ما يلقاه الانسان من والديه ...
اتقوا الله يا عباد الله ...
وارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء ...
لو أراد الله أن لا يكون لاحدكم عيش مع صاحبه ...
فارضوا بالقضاء ودعوا الأمور تنتهي بسلام ....
دون ثأر ... دون تنكيل ... دون انتقام ...
لا يدفعنكم الغضب إلى القسوة والظلم...
فيسلب ابن من والده ... أو تحرم أم ...
فالله لعبيده ليس بظلام ...
يفتح أبواب السماء لدعوة المظلوم ويرفعها فوق الغمام...
ويقول لها : وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين ...
فاتقوا الله في ابنائكم ولا تفرقوا بين الدماء والأرحام ..
لا تفوتوا عليهم فضل البر ولا تفسدوا عمل المصلحين ..
وآخر دعواي أن الحمد لله رب العالمين ....
التعديل الأخير تم بواسطة وحدة ونص ; 05-06-2007 الساعة 09:32 AM