وهناك وعندما وضع الطبيب السماعة علي صدري أدركت أن هناك مشكلة.. فقد تحول وجه الطبيب إلي التجهم وهو يسألني 'ماذا فعلت بصدرك؟' وعندما لم أرد عاد يسألني 'منذ متي تدخن السجائر.. وكم سيجارة تدخنها في اليوم؟'. وأجبت بأنني أدخن منذ كنت في السابعة عشرة من عمري.. وانني أدخن علبتي سجائر في اليوم. وعندما علم بأنني من طلبة الدراسات العليا في الجامعة الشهيرة التي كنت أدرس بها قال في شبه اتهام 'كيف يمكن لشاب وصل إلي مستواك العلمي أن يدمر جسمه بهذه الصورة؟.. ألم تقرأ علي علب السجائر انها تسبب الموت؟' وطلب مني في عجلة أن أتوجه إلي مركز طبي كبير للأورام لعمل أشعات علي الصدر.. مع عدد من التحاليل والفحوصات وأن أسارع بالذهاب والعودة إليه بالنتائج في اليوم التالي مباشرة وعند خروجنا من حجرة الطبيب تأخر عني صديقي بضع خطوات وسأل الطبيب، هل تشك في وجود ورم في الرئة؟ وسمعت الطبيب يجيب في اقتضاب 'لا أستطيع أن أجيبك قبل أن تصلني الفحوصات'.
وتزاحمت الأفكار السوداء في رأسي.. فما الذي يشك فيه الطبيب.. ولماذا هو متجهم وشبه غاضب مني مع ان الأطباء الأجانب يتميزون عادة بالهدوء مع المرضي؟ ولم يتركني صديقي وذهب معي إلي المركز الطبي.. وهناك خضعت لمجموعة من الفحوص التي كانت تزيد من مخاوفي.. فهناك صور للأشعة.. وهناك تحليل للدم والبصاق.. وهناك جهاز أدخل فيه ويسير متمهلا حتي أجد نفسي داخله مما يجعلني أشعر بأن روحي أزهقت. وفي اليوم التالي عندما عدنا بالنتائج إلي الطبيب الذي ما كاد يتفحصها حتي قال بصوت محايد 'كما قلت تماما.. ورم خبيث بالرئتين.. والحالة متقدمة'.
كنت واقفا ساعتها أمام الطبيب فانهرت جالسا.. وتصبب العرق من وجهي وتصورت انني في كابوس، ان تشخيص الطبيب موجه إلي شخص آخر غيري.. ونزلت دموعي من عيني وكأن الطبيب أراد أن يعانفني علي ما أبديت من ضعف فقال في شبه قسوة 'تدخن علبتين من السجائر يوميا منذ سنوات ثم تبكي من النتيجة التي كان يجب أن تتوقعها؟' ولم أستطع الرد فزاد الطبيب من قسوته متسائلا: 'وهل كنت تدخن الماريجوانا أو الحشيش أو الهيروين؟' وهززت رأسي بالنفي قائلا: 'فقط السجائر.. وأحيانا الشيشة' وهز الطبيب رأسه في شبه أسي وقال: 'كثير من مرضاي الذين يجيئون من الدول العربية كان من أسباب مرضهم بالسرطان والسل والقلب انهم كانوا يدخنون الشيشة.. ولا أعرف من الذي أدخل في عقولهم أنها أخف ضررا من السجائر فحجر الشيشة يساوي أربعين سيجارة.. واعتقد ان الذي أطلق هذه الشائعة غير العلمية هم بعض أصحاب المقاهي التي تنتشر فيها هذه الكارثة المسماة بالشيشة.. انها عملية قتل جماعي علي مقاهي الدول العربية.. وعموما فقد وقع الضرر بالنسبة لك.. والمهم هو أن تسارع بالعلاج'.
نعم.. المهم هو العلاج.. وتمسكت بهذه الجملة التي أعطتني بصيصا من الأمل وسألت يعني.. هل يمكن أن أشفي؟ ورد الطبيب قائلا: لا أريد أن أعطيك آمالا كاذبة.. هذا ليس أسلوبنا في العلاج.. وأصارحك بأنك تأخرت في اكتشاف المرض.. وكان يجب عليك عندما بدأت تشعر بالتعب.. وباستمرار السعال.. وبالضعف والعرق والحرارة أن تحضر إليٌ.. لكنك لم تفعل.. ولذلك يجب دخولك المستشفي فورا'.
حاولت أن أعترض وأقول ولكن موعد مناقشة رسالة الماجستير قد اقترب.. ولكن الطبيب قاطعني قائلا: 'لا تفكر الآن في الماجستير أو غيرها.. ان حياتك في خطر.. ولابد من دخول المستشفي'.
وفي البداية أخفيت عن أمي وخطيبتي وكل الناس هذه الأخبار المزعجة.. وجاء صديقي ووضع بعض ملابسي في حقيبة وذهبنا إلي المستشفي. وكان من حسن حظي انه كان لي الحق في العلاج بنظام التأمين الصحي.. وإلا ما تمكنت ميزانيتي دفع نفقات أسبوع واحد من العلاج.. فعلاج مرض السرطان مكلف للغاية.. ومررت بتجارب علاج الأورام المؤلمة من علاج كيميائي إلي اشعاعي.. إلي محاليل تعلق طوال اليوم في عروقي.. إلي اشعات وتحاليل لا تنتهي.. ولكن للأسف لم تستجب رئتاي اللتان دمرهما الدخان للعلاج