وقد شعرت والدتي بقلب الأم وبالاستماع إلي صوتي الذابل في التليفون وبعدم تصديق الحجج الواهية التي أبديتها بعدم مناقشة رسالة الماجستير في موعدها المحدد بأنني أمر بظروف سيئة وغير عادية.. وتصورت انه حدثت لي مشاكل مع أساتذتي في الجامعة.. في حين تصورت خطيبتي أن حبي لها قد فتر. وتحت إلحاح شديد من والدتي وفي لحظة ضعف شديدة لم أستطع إلا أن انفجر في البكاء في التليفون وأنا أقول 'تعالي بسرعة يا أمي.. فأنا مريض جدا ويمكن أن أموت'.
وسمعت صوت السماعة تسقط من يد أمي في الناحية الأخري.. وكنت في هذه الأثناء قد علمت من الأطباء ان حالتي تسوء.. وانه لم يبق لي سوي أشهر معدودة.
واستطاعت أمي بعد أسابيع وبمعجزة أن تحصل علي تأشيرة دخول الولايات المتحدة الأمريكية.. حاولت خطيبتي الحضور لكنها لم تستطع.. فالأمور لم تعد سهلة بالنسبة للعرب بعد أحداث 11 سبتمبر وعندما وصلت أمي إلي المستشفي وجدتني أقرب إلي الشبح.. وضمتني إلي صدرها وهي تشهق في البكاء..
ولا أريد أن أصف لك الحزن الذي عرفناه في الأيام التالية.. فعندما صارح الأطباء والدتي هي الأخري بأن أيامي أو بمعني أدق شهوري معدودة صممت علي أن تسافر إلي فرنسا لأعرض نفسي علي أطبائها المشهود لهم بأنهم من أفضل أطباء الأورام في العالم.. وكنت قد قرأت كثيرا عن اسم البروفيسور شيفالييه الذي أشرف علي علاج الفنان الكبير الراحل أحمد زكي.. فوافقت علي السفر لعل أن يكون علي أيدي أطباء فرنسا بعض الأمل في الشفاء.. وكان عليٌ أن أودع جامعتي.. واملأ حقائبي ليس فقط بملابسي وكتبي وإنما أيضا بأوراق الماجستير التي تعبت كثيرا في جمعها.. وقضيت الليالي ساهرا علي أمل الحصول عليها وبعدها الدكتوراة. وعندما كنت أودع الولايات المتحدة الأمريكية في المطار كان هذا وداعا لحلمي الكبير في الحصول علي الشهادة العلمية التي حلمت بها كثيرا.
وسافرت مع والدتي إلي فرنسا وعرضت نفسي علي شيفالييه.. وغيره وبعد فحوصات جديدة كان القرار هو انني تأخرت كثيرا وضاعت فرصتي في العلاج.
وجمعنا أنا وأمي يأسنا وحقائبنا مرة أخري وعدنا إلي مصر.. وكان في استقبالنا في المطار خطيبتي وكل اخوتي وعدد كبير من الأقارب.. وسرنا في موكب حزين أشبه بموكب جنائزي عائدين إلي بيتنا.. ودخلت حجرتي التي طالما شهدت أحلامي في التفوق وفي أن أصير واحدا من أكبر رجال العلم في مصر.. كما شهدت أحلامي الخاصة وقصة حبي التي كنت أتصور أنها سوف تنتهي بجلوسي في الكوشة بجانب حبيبتي في يوم الزفاف.. وأيقنت ان هذه كلها أحلام تحطمت ولم يعد أمامي ما أفكر فيه سوي الاعداد لجنازتي والقبر الذي سوف يضم جسدي المريض.. وبالفعل صممت علي أن أزور مقبرتنا التي دفن فيها والدي وعمي وأجدادي.. ولم يعجبني أنها قد أصبحت متداعية.. فطلبت ترميمها وطلاءها باللون الأبيض.. وقمت بوضع بعض قصاري الزرع الأخضر في حوش القبر.. وجلست في ذلك اليوم طويلا اقرأ سورا من القرآن الكريم علي روح كل الذين سبقونا في الرحيل.. وقرأت سورا من القرآن الكريم علي روحي أيضا.. فبعد فترة لن تطول سوف أكون في حاجة إلي من يقرأ علي روحي آيات الذكر الحكيم.. ولعلني أكون أولي بأن أقوم بهذه المهمة بدلا من الآخرين