الفصل السابع
في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه وما يمنع الحمل أو يسقطه
استعمل المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين:
الأول: ألا يخشى الضرر عليها، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى: (( ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)). (البقرة الآية195) (( ولا تقلتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً)) (النساء الآية 29)
الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنع الحيض لتطول المدة وتزداد عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع حينئذ إلا بإذنه، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فالأولى عدم استعماله، إلا لحاجة، لأن ترك الطبيعةعلى ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة والسلامة.
وأما استعمال ما يجلب الحيض فجائز بشرطين أيضاً:
الأول: ألا تتحيل به على إسقاط واجب، مثل أن تستعمله قرب رمضان، من أجل أن تفطر أو تسقط به الصلاة، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون ذلك بإذن الزوج، لأن حصول الحيض يمنعه من كمال الاستعمال، فلا يجوز استعمل ما يمنع حقه إلا برضاه، وإن كانت مطلقة،فإن فيه تعجيل إسقاط حق الزوج من الرجعة إن كان به رجعة.
وأما استعمال ما يمنع الحمل فعلى نوعين:
الأول: أن يمنعه منعاً مستمراً فهذا لا يجوز، لأنه يقطع الحمل قيقل النسل، وهو خلاف مقصود الشارع، من تكثير الأمة الإسلامية، ولأنه لا يؤمِّن أن يموت أولادها الموجودون فتبقى أرملة لا أولاد لها.
الثاني: أن يمنعه منعاً مؤقتاً، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل، والحمل يرهقها، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك فهذا جائز، بشرط أن يأذن به زوجها وألا يكون به ضرر عليها ، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ألا تحمل نساؤهم ، فلم ينهوا عن ذلك. والعزل أن يجامع زوجته وينزع عن الإنزال فينزل خارج الفرج.
وأما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين:
الأول: أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام، بلا ريب ، لأنه قتل نفس محرمة بغير حق، وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وإن كان قبل نف الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه، ومنهم من منعه، ومنهم من قال يجوز ما لم يتبين فيه خلقُ إنسان.
والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجة كأن تكونَ الأم مريضة لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك، فيجوزُ حينئذ إلا ما مَضَى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع. والله أعلم.
الثاني: ألا يقصد من إسقاطه إتلافه بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع فهذا جائز، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم، ولا على الولد. وألا يحتاج الأمر إلى عملية، فإن احتاج إلى عملية فله حالات أربع:
الأولى : أن تكون الأم حية والحمل حياً، فلا تجوز العملية إلا لضرورة، بأن تتعسر ولادتها فتحتاجُ إلى عملية، وذلك لأن الجسم أمانة عند العبد، فلا يتصرف فيه بما يخشى منه إلا لمصلحة :كبرى؛ ولأنه رما يظن ألا ضرر في العملية فيحصل الضرر.
الثانية: أن تكون الأم ميتة والحمل ميتاً، فلا يجوز إجراء العملية لإخراجه لعدم الفائدة.
الثالثة: أن تكون الأم حية والحمل ميتاً، فيجوز إجراء العملية لإخراجه، إلا أن يخشى الضرر على الأم لأن الظاهر – والله أعلم – أن الحمل إذا مات لا يكاد يخرج بدون العملية ، فاستمراره في بطنها يمنعها من الحمل المستقبل، ويشق عليها، وربما تبقى أيّماً إذا كانت معتدة من زوج سابق.
الرابعة: أن تكون الأم ميتة والحمل حياً، فإنا كان لا ترجى حياته لم يجز إجراء العملية.
وإن كان ترجى حياته، فإن كان قد خرج بعضه شق بطن الأم لإخراج باقيه، وإن لم يخرج منه شيء، فقد قال أصحابنا رحمهم الله لا يشق بطن الأم لإخراج الحمل، لأن ذلك مُثْلَة، والصواب أنه يشق البطن إن يكن إخراجه بدونه، وهذا اختيار ابن هبيرة قال في ((الإنصاف )): وهو أولى.
قلت: ولا سيما في عصرنا هذا فإن إجراء العملية ليس بمثلة، لأنه يشق البطن ثم يخاط، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب. والحمل إنسان معصوم فوجب إنقاذه. والله أعلم.
تنبيه: في الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل فيما سبق لا بد من له الحمل في ذلك كالزوج.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا الموضوع المهم، وقد اقتصرنا فيه على أصول المسائل وضوابطها،وإلا ففروعها وجزئياتها وما يحدث للنساء من ذلك بحر لا ساحل له، ولكن البصير يستطيع أن يرد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها وضوابطها، ويقيس الأشياء بنظائرها.
وليعلم المفتي أنه واسطة بين الله وبين خلقِهِ في تبليغ ما جاءت به رسله، وبيانه للخلق، وأنه مسئول عما في الكتاب والسنة، فإنهما المصدران اللذان كلِّف العبد فهمها، والعمل بهما، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو خطأ، يجب رده على قائله، ولا يجوز العمل به، وإن كان قائله قد يكون معذوراً مجتهداً فيؤجر على اجتهاده، لكن غيرَه العالم بخطئه لا يجوز له قبوله.
ويجب على المفتي أن يخلص النية لله تعالى، ويستعين به في كل حادثة تقع به، ويسأله تعالى الثبات والتوفيق والصواب.
ويجب عليه أن يكون موضع اعتباره ما جاء في الكتاب والسنة ، فينظر ويبحث في ذلك أو فيما يستعان به من كلام أهل العلم على فهمها.
وإنه كثيراً ما تحدث مسألة من المسائل، فيبحث عنها الإنسان فيما يقدر عليه من كلام أهل العلم، ثم لا يجد ما يطمئن إليه في حكمها، وربما لا يجدُ لها ذكراً بالكلية، فإذا رجع إلى الكتاب والسنة، تبين له حكمهما قريباً ظاهراً وذلك بحسب الإخلاص والعلم والفهم.
ويجب على المفتي أن يتريث في الحكم عند الإشكال، وألا يتعجل، فكم من حكم تعجل فيه، ثم تبين له بعد النظر القريب، أنه مخطئ فيه، فيندم على ذلك، وربما لا يستطيع أن يستدرك ما أفتى به,
والمفتي إذا عرف الناس منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه، وإذا رأوه متسرعاً، والمتسرع كثير الخطأ، لم يكن عندهم ثقة فيما يفتي به فيكون بتسرعه وخطئه قدم حرم نفسه وحرم غيره ما عنده من علم وصواب.
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم. وأن يتولانا بعنايته. ويحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم؛ صلى الله وسلم ، على بينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بقلم الفقير إلى الله: محمد الصالح العثيمين في ضحى يوم الجمعة الموافق 14 شعبان سنة 1392 هـ.