فوجئ طاقم الطائرة وقائدها يزميلتهم المضيفة تصعد سلم الطائرة بثوب طويل يغطي ظهر قدميها , وحجاب لا يبدو منه إلا تدويرة وجهها الذي ليس عليه شيئ من الأصباغ .
فتقدمت وألقت التحية :
( السلام عليكم ) دون تبذل ولا ضحك ولا مداعبة .
ارتسمت علامات التعجب على الوجوه , من هذه ؟ , , هل حقا هذه .......؟ ,
يا .. انسة , هكذا ناداها قائد الطائرة مرتبكا حائرا بين الشك واليقين .
عادت أدراجها ووقفت أمامه غاضة بصرها , ثم قالت :
هل ناديتني يا كابتن ....؟
هنا فقط تأكد من أنها هي ذاتها , فأضاف :
ما الذي حدث ؟ وما هذا الزي الذي ترتدينه ؟ ,
قالت :
إنها ثياب جديدة .
قال :
أنا لا أسأل إن كانت جديدة أو غير جديدة , ولكن العمل له زي خاص .
قالت :
لقد فصلت ثياب جديدة للعمل , ولكن خياطتها ستستغرق أسبوعا فأضطررت لإستخدام هذه الثياب .
قال:
لا .. لا أنت تعلمين أنه لا يمكن ممارسة عملك بهذه الثياب , وأفضل أن تأخذي إجازة حتى تنتهي الخياطة من إنجاز ثيابك .
أستدارت واتجهت إلى الإدارة لتطلب إجازة بالفعل .
وانتهت الإجازة , فجاءت المضيفة بلباس المضيفات الرسمي , ولكنه على هيئة غير معتادة , فالتنورة طويلة تغطي ظهر القدمين , والرداء فضفاض لا يضيق عند الصدر ولا يظهر منه في أعلىالصدر شيئ من جسدها , وأما القبعة فهي بمنتهى الغرابة , تشبة قبعة المضيفات في شركة الطيران لكنها على هيئة حجاب إسلامي لا يظهر منه إلا تدويرة وجهها .
ضحك قائد الطائرة للوهلة الأولى , وقال :
هل أنت ذاهبة إلى حفلة تنكرية ؟ ,
تجاهلت المزحة وقالت بجدية وهي تضغط على الحروف :
بل إنني جئت لأمارس عملي .
قال :
ولكن هذه الثياب لا تصلح لمضيفة طيران .
قالت :
وهل مضيفة الطيران إلا إمرأة ككل النساء يصلح لها ما يصلح لأية إمرأة أخرى ؟ .
قال :
اسمعي يا أخت ... , لقد أخبرني زملاؤك بما حدث في رحلتنا إلى فرنسا منذ أسبوعين ( راجع قصة توبة فوق السحاب ), وقد فرحت عندما أخبرني الجميع بأنهم حافظوا على صلاتهم منذ ذلك اليوم , وقد قررت أنا أبدأ بالصلاة فعلا , ولكن ما يجب أن تعرفيه أن الإسلام دين يسر ليس فيه تعصب ولا تشدد . وهذا العمل هو مصدر رزقك ويستلزم منك مظهرا يليق بالمضيفات , أما الحجاب والجلباب لمن يجلسن في البيوت .
قالت باستغراب :
ومن يجلسن في البيوت ما حاجاتهن للجلباب يا سيد ......؟. بل على العكس إن ثياب البيت هي التي تكون قصيرة أو خفيفة , أما خارج البت فعلى المسلمة أن تلتزم بالحجاب , والثوب الذي يسترها .
قال :
قلت لك أن الدين يسر فلا تتشددي .
قالت :
وكيف تفهم اليسر أنت ؟ ، هل اليسر أن أظهر مفاتني للعيون الجائعة ؟ ، هل اليسر أن أخالف أمر الله ؟ ، وعلى أي علم شرعي أفتيت أنت بهذا اليسر ، إذا كنت لا تصلي – واعذرني – فكيف تفتي في الدين ؟، الدين الذي لم تأخذ بأهم أركانه ؟ .
أغاظته العبارة فقال :
تعنينن أنك مصرة على هذه الثياب ؟.
قالت :
بل مصرة على طاعة الله .
قال :
أنا آسف ، لكن شركة الطيران لن تقبل صعودك إلى الطائرة بهذه الهيئة ، وأخشى أن تلحق بي مسؤولية وتبعات لا أحتملها إذا سمحت لك بالعمل بهذه الثياب .
قالت :
و ماذا أفعل ؟.
قال :
احضري إذناً من الإدارة بالسماح لك بارتداء هذه الثياب .
ومرة أخرى عادت أدراجها باتجاه الإدارة كما عادت في الأسبوع الماضي ، وفاتتها الرحلة الثالثة خلال هذه الأيام القليلة .
قال المدير :
يا آنسة ، أنت شابة ومقبلة على الحياة ، وقد سافرت كثيراً ورأيت بلاداً، ونظرتك تختلف عن نظرة الفتاة الأمية الجاهلة ، فكوني كما كنت مثالاً للفتاة المعاصرة .
قالت :
وهل الله رب الجاهلات والأميات فقط ؟، وهل الجنة لهن وحدهن؟، وهل الثقافة والوعي في التعري ؟، ما الذي تقوله ياسيدي؟.
تنحنح المدير و قال :
أنا لم أقصد هذا ، ومن منا لا يطمع في الجنة ؟، ومن منا لا يقر بالعبودية لله ؟، ولكن للعمل ظروفه ، والضرورات تبيح المحظورات ، ثم ابتسم وقال : إن الله غفور رحيم .
قالت :
ما شاء الله ، الكل علماء ويعطون الفتاوى بغير عناء .
استثارت كلماتها غضبه فقال :
عيب يا آنسة ، نحن نعرف الله قبل أن نراك ، ونعرف أصول الدين ، وما الحلال وما الحرام ؟، إذا لم تخلعي هذه الملابس التي تظهرك كأنك مضيفة آلية فسأضطر إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة .
قالت :
ولكن ليس في قانون العمل ما ينص على وجوب ظهور المضيفة نصف عارية .
قال :
ولكنه ينص على ظهورها بمظهر لائق .
قالت :
وهل اللباس الذي اختاره غير لائق ؟.
قال :
لا تبيعي وطنيات ، حتى الدين صار فيه بيع وطنيات ! .
إن ظهورك بهذه الثياب سيؤثر على سمعة الشركة ، وربما يؤثر على موسم السياحة ، ويعطي صورة سيئة عن بلادنا .
فقالت بحزم :
هل تسمح لي بالعمل بهذه الثياب أم لا ؟.
قال :
لا .
فاستدارت وخرجت .
قال الشيخ :
أنا أقدّر وضعك يا ابنتي ، وأفهم حسن نيتك ، وأكبر اندفاعك وتمسكك ، ولكن المشكلة أن الدين ليس قانوناً وضعياً يمكن التلاعب به ، وإنما هو وقف على المشرّع سبحانه ، فهو الذي شرع للمرأة هذا اللباس ، ولا يمكن تجاوز كلام الله ، ما باليد حيلة يا ابنتي ، الضرورات التي تبيح المحظورات غير هذه الأمور ، فلو اضطررت لإجراء عملية جراحية ولا توجد طبيبة فهذه ضرورة ، أما ما نحن بصدده فليس ضرورة .
يمكنني أن أخدعك كما يفعل بعض المتاجرين بالدين ، ولكنني لا أستطيع أن أتجرأ على الله فأشرّع على هواي ، أو هوى الناس وأحلُّ ما حرّم الله .
اسمعي يا ابنتي :
من ترك لله أبدله خيرا منه ، وإن كان لك رزق في وظيفتك هذخ فإنك ستأخذينه ، ولا يمكن لأحد أن يمنع رزقاً ساقه الله إليك .
خرجت من عند الشيخ بيقين أكبر وقوة متحدية ، ذهبت إلى البيت ، وفي ساعة السحر كانت في مناجاة مع الله ، ختمتها بعهد أعطته لربها أن لا تطيع من يأمرها بمعصيته .
استقبلت قرار الفصل من وظيفتها بابتسامة مُرة ، وقالت :
حسبي الله ونعم الوكيل .
كانت تقرأ المقال الذي كتبته صديقتها الصحفية (.....) حول مشكلتها وقرار فصلها إثر التزامها بالحجاب الإسلامي عندما دق جرس الهاتف ، قامت لترد بتكاسل ، جاءها صوت صديقتها بنبرة فرحة :
هل قرأت المقال ؟.
قالت :
كنت أقرأه عندما اتصلت ، ربما كنتِ المستفيدة الوحيدة من هذه القضية التي شكلت لك مادة صحفية دسمة .
قالت الصحفية :
ومن قال لك هذا ، بل إنه لم يستفد أحد قدر ما استفدت أنت ، لقد استفدت الدنيا والآخرة ، ضحيت بالقليل ففزت بالكثير .
قالت :
أما الدنيا فقد ضاعت ، وأما الآخرة فأملي فيها .
قالت الصحفية :
بل قولي إن الدنيا قد جاءت ، على كل حال أنا لي البشارة .
قالت :
بشارة ماذا ؟.
وجاءها صوت الصحفية وكأنه ماء يسكب على قلبها المشتعل :
بعد ساعتين من نشر المقال اتصلت بنا شركة طيران خليجية تريد اسمك وعنوانك ، وربما يكون العرض الآخر مغرياً أكثر .
شاب يعمل مديراً لمجموعة شركات وذو مكانة ثقافية واجتماعية يريد اسمك وعنوانك ليخطبك ، ها .. هل أنتِ معي ؟ هل تسمعينني ؟ ، أين ذهبتِ ؟.
وضعت سماعة الهاتف جانباً دون أن تغلق الخط ، واستقبلت القبلة وكبرت وسجدت لله سجدة ملؤها اليقين بعظمة من هي بين يديه ، ( سبحان ربي الأعلى وبحمده ) لسانها يسبح لكن المعنى الذي في قلبها لم تعبر عنه إلا تلك الدموع المتدفقة