نظر اليه جنوده وضحكوا وهمس جندي لرفيقه : يتحدث الرئيس الى صديقته ويسألها عن ما اعدت له على الغداء . تقدم قائد الفرقة ونظر الى الناس وقال : انكم مجانين الم نخبركم ايها العرب ان تخلوا القرية . فجأة قطع حديثه شيخ القرية المسن ابومحمد وقال : لن نترك ارضنا ايها الدخيل ولو على جثثنا ، لم يكمل الشيخ كلامه حتى وبسرعة اخرج دخيل مسدسه واطلق كل ما عبىء به مسدسه الى صدر الشيخ الذي ماتحمل هذا الكم من الرصاصات وسرعان ما سقط ولقد تلونت دشداشته البيضاء باللون الاحمر وصرخت النساء والناس وصرخ دخيل اصمتوا جميعا واطلق جندي رصاصة في الهواء اشعل دخيل سيجارة ونظر ولمح وجه جميل واذا به ينظر الى ام الفرج واقترب منها واخبرها ماذا تحمل بيدها وان تذهب معه لكنها بصقت في وجهه وقبل رفع يده ليلمسها واذا بابو الفرج يضربه ضربة قوية على وجهه بيد خشنة جعلت نظارة دخيل تسقط بعيدا وكأنها اشلاء وسال الدم من فم دخيل واذا بجندي من الخلف يضرب ابوالفرج على رأسه ببندقيته ضربة جعلت ابوفرج يفقد وعيه ويسقط ارضا وامسكت ام الفرج وهي تبكي بيد زوجها وضمته ، حينها رجع دخيل الى الخلف وقال : ايها الجبناء انتم لا تفهمون الا القوة ، واطلق اشارة الى الجنود باصبعه واذا بالجنود صوبوا بنادقهم وامطروا ما يملكون من ذخيرة الى صدور عارية لا تملك ما تدافع به عن نفسها حينها تسابقت القلوب الممزقة ايها يخرج دمائه قبل الاخر ليروي ارضه ووطنه دفاعا عنها وايفاء بالوعود بعدم التخلي عنهاالا بالموت ، عندما سمع فرج اطلاق النار خرج من الخزانة وطلب من اخته التي مازالت تبكي وترجف وهي تضم دميتها الصغيرة الى صدرها بكل قوة ان تبقى في مكانها، واخرج حجران من الصوان وكأنهما سكاكين كان قد خبئهما في بيته وخرج الى الخارج نظر والدموع تسيل من عينيه لم يجد سوى جثث ممدة وجنود مبتسمين ، وصرخ دخيل اهرب ايها الصغير قبل ان اغير رأيي واقتلك، اقدم وبكل ما اوتي من قوة اكتسبها بفعل الظروف والعمل ضرب الحجر الاول وكأنه سكين جرحت وجه جندي وسال دم من وجهه وانفه، اراد فرج ان يتبعه بالحجر الاخر لكن الرصاصة سبقت وخرقت رأسه ، فجرت ونشرت دماغه الصغيرة التي تحمل احلام صغيرة وافكار بريئة طفولية وتجهل الكثير عن الحياة وعن الاسباب .
ثم اخذت طائرة العدو تقصف بيوتا صغيرة وبسيطة وكأنها بيوت من ورق، تناثرت اشلاء ودماء وحبات زيتون . هدمت بيوت كثيرة منها بيت ابوالفرج بيت الحب والسعادة والبساطة والطفولة.
غادرت الوحوش بعدما تشبعت اياديها بالدماء واخذت حصص من ارواح ، وانتزعت احلام وهدمت اي مظهر للفرح الجزئي غادرت وتركت خلفها قرية مظلمة صامتة لكن هناك الكثير من شهود العيان على هذه الجريمة هناك اشجار وتراب وهواء ومياه لا يمكنهم قتلها، ولا يمكنهم اسكاتها، بل اخذت اشجار الزيتون تضم الى صدرها الموتى وتعانقهم وارادت الارض ان تواري ابنائها داخلها والمياه ارادت غسل الدماء واعادته الى امهم واقسم الهواء على ان يبقي انفاسهم داخله انفاس عربية حرة .
في هذه الاثناء كان يحيى في طريق عودته من المدرسة بعد يوم جميل امضاه في المدرسة ، وكأنه فرح بعد ان باع ابوه المحصول ، اخذ بالركض في السهول والقفز يمنة ويسرة بكل فرح وسرور وهو يغني ، حيث غدا يوم اجازة من المدرسة وسيمضي هذه الليلة مع اهله واليوم التالي بطوله، اقترب من القرية ..... واقترب اكثر واكثر ....... اخذ يركض اكثر فاكثر ، ولا يرى امامه الا عائلته وحضن امه التي اعتاد عليه عند رجوعه ، ويفكر ما هو شكل الدفتر الذي احضره له والده وكم هو جميل ، وما هو مظهر اللفحة بعد ان اكملتها امه ، واشتاق الى طعام امه وخبزها لشعوره بجوع شديد ، اقترب واقترب بدأت سرعته تنقص شيئا فشيئا لما لاحظه من هدوء تام ، لم يسمع سوى انين الريح وخشخشة اوراق الشجر، دخل القرية ولم يجد من اناس يستقبلونه ، شعر وكأنه دخل مكانا خاطئا ، او ان اهل القرية قد رحلوا ولم يخبروه ، نظر الى الاراضي عن اليمين وعن الشمال وكأنها عطشى خاوية على عروشها ، والى البيوت مهدمة وكأنها مهجورة منذ زمن بعيد والى الاشجار واذا بها مطئطئة اغصانها الى الاسفل ، حينها شعر بخوف شديد احس خلاله انه تائه في صحراء ، حاول تجاهل هذه الاشياء ، وركض باقصى سرعته متجها الى بيته وهو متيقين ان اهله في انتظاره ، اقترب من ارضه ونظر من تلة يقف دائما عليها حين عودته ويرى من عليها بيته ، ولكنه لم يرى سوى اطفال و رجال ونساء ممددين ظن انهم نائمون ، وركض نحوهم ، وصل اخيرا ولم يقع نظره الا على امه وابوه واخوه وبادىء الامر لم يبدي اية حركة، وقف امامهم وصرخ : مرحبا، لقد عدت ، لكن ما من اجابة ، صرخ وهو يصب دموعه مرة اخرى : امي حبيبتي لقد عدت ، لكن لم تجبه لانها في سبات عميق ، اعمق من ان يمكنها من سماعه، ثم القى نفسه لا شعوريا الى حضنها لكنها لم ترفع ذراعيها ولاول مرة لم تحضنه ولم تقبله ، فرفع ذراعها ونزل تحتها ، لكن دون جدوى ، اخذ يبكي ويصرخ بصوت دوى في الفضاء، وركض الى اقرب شجرة وهوى تحتها يبكي ويضرب رأسه بالتراب وكأنه يريد ايقاظ نفسه من حلم لا يعلم انه حقيقة ، ومن شدة بكاءه وحزنه وخوفه تلك الليلة ارادت اشجار الزيتون لو انها تتحرك و تضمه واخذت تبكي لكنها توقن انه لا احد يسمعها ، حتى يحيى لانه في حينها لا يشعر باحد من حوله ولا حتى بالدنيا . بعد فترة توقف فجأة عن البكاء وفرك عينيه بقوة واخذ بالسير بقدمين ما عاداتا قادرتان على حمله وتقدم، نظر من جديد لعله كان في احلام وتهيئات ، نظر اليهم فوجدهم جميعهم قد تغسلوا بالدماء ، امه تحمل في يدها لفحته المعطرة باللون الاحمر وقد وضعتها الى صدرها ويدها الاخرى تمسك بيد زوجها الحبيب ووجهها بهيئتين ، نصفه حزن واثر لدموع على خديها لخوفها على اطفالها وحبها لهم ،والنصف الاخر ضحكة مرسومة ، ربما لانها ماتت بقرب زوجها الحبيب الذي كان يخبرها انه سيظل يحبها حتى لو مات وستظل روحه الى جانبها، ووالده يمسك بقوة باليد الاخرى حفنة تراب ، واخوه يمسك بحجر احمر ، حينها احتار ماذا يفعل هل يبكي او يقتل نفسه ، لم يقدر عقله الصغير ان يفسر الاسباب او النتيجة ، لم يصدق ما يخبره به عقله انهم قد ماتوا جميعا وتركوه وحيدا ، وفكر انه لا بد له ان يقتل نفسه . لكن تذكر شخصا يحبه لم يره معهم ربما سيخبره انه في حلم ، امال اخته العزيزة ، بحث هنا وهناك لكن لم يجدها ، نظر الى مكان بيته ولم يعد يتعرف الى بيته ، ولكن راى شجرة زيتون كان قد زرعها مع ابوه امام بيته فعرفه ، اقترب منه ورأى فقط حجارة متناثرة ، بحث وبحث ، فجأة رأى يدا صغيرة غضة تخرج من بين الركام ، ركض نحوها وازال جميع الحجارة واذا بامال تحتضن دميتها الصغيرة ودفتره الجديد والدموع لا تزال على خديها الرطبين ، هزها هزة قوية وصرخ امال ......امال .... بكى وبكى...... واذا بالدمية تسقط وهي تبكي وامال لا تبدي اية حركة .... هي ميتة .... هذا ما ادركه .... كلهم ميتون .....حمل اخته ودميتها ووضعهم الى جانب عائلته ، وسجد على ركبتيه منهكا يبكي ويأن ويحمل تراب ويلقيه على رأسه ، ويصرخ : لماذا لم تأخذوني معكم، اني اكرهكم، لماذا لم تنتظروني حتى اعود ؟ امي ارجوكي استيقظي اني ابكي ، اني متعب ، اسألك بالله لا تتركيني . هذا كلمات يعرف انها تهز قلب امه ولا تقدر على تجاهلها ....... لكن ما من اجابة ..... وفجأة سقط بينهم مغشي عليه .... من شدة التعب ، والحزن والخوف بل الجنون ، لم يستطيع عقله الطفولي استيعاب كل هذه الاحداث ففضل ان ينقذ الطفل المسكين ويجعله ينام. نام يحيى ، نام كعادته بين افراد عائلته ، وبقرب امه الحبيبة ، ولكن هذه المرة لن يقظه احد ، بل ليته لا يستقيظ من جديد ليشاهد مأساة حقيقية ، ماذا يمكن تخيل شعور طفل يجد نفسه مجرد من كل ما هو طبيعي ، بل قد جرد من الحياة .
استيقظ يحيى وقد طلعت الشمس ونظر من جديد حينها فقط اكتشف انه لم يكن يحلم ، جلس على حجر بالقرب من الضحايا ، واخذ يتأمل وينظر اليهم الواحد تلو الاخر ، وبعد فترة كان الخبر قد وصل الى كل القرى بل الى كل فلسطين ، واذا بجماهير من الناس تاتي من كل صوب ، الى منطقة الجريمة ، سمع يحيى وهو جالس لا يبدي اية حركة اناس يصرخون : لا اله الا الله ، الله اكبر على الظالم . واناس يبكون وهم يتفقدون الجثث لعلهم يجدون امل في حياة ، ونساء يصرخن ، وسمع شيخ بلحية بيضاء يقول: وحدوا الله يا ناس ، الله يرحمهم انهم شهداء، وجاء الواحد تلو الاخر الى يحيى يقبله ويحدثه : حمدا لله على سلامتك ، وكلا منهم يريد ان ياخذه ليعتني به ، لكن رفض ان يحرك ساكنا ، الى ان وصل الكثير من اقاربه وقد انقضوا عليه يقبلوه وهم يبكون لم يعلم حينها ما سبب بكائهم ، ونساء كل واحدة تضمه الى صدرها لكنه لم يشعر باية ضمة، ولا يبدل كل الاحضان مجتمعة بل الدنيا بأسرها بلمسة من امه ، ثم رأى اقاربه يتشاورون وكلا منهم يريد اخذه ، ولكن اصر عمه ابومحمود ان يأخذه واقنعهم بان عائلته صغيرة هو وزوجته وابنة واحدة ، اراد ابو محمود بعد ان امسك يد يحيى ان يأخذه ويبعده عن هذه المنطقة ، لكن طلب يحيى من عمه طلبا ان يودع عائلته ، واراد الناس ان يدفنوا الشهداء ، فركض يحيى وصرخ توقفوا ، توقف كل الرجال ، واذا به يقبل عائلته فردا فردا ويودعهم وهو يبكي وكأنه يريد ان يأخذ ذكرى منهم ، وهمس بأذن امه الميتة : امي حبيبتي هل تسمحي لي ان اخذ اللفحة ،نظر وشعر وكأنها تبسمت، فسحب اللفحة برفق من يدها ، واخذ الدمية الصغيرة ودفتره من يدي امال بعد ان قبلها وهو يبكي ويرجف ، واراد ان يفتح يد والده ليأخذ حفنة التراب من يده لكنه لم يتمكن من فتح يد ضخمة قوية مجعدة بينها وبين التراب رابطة قوية اقوى من ان يتمكن اي احد ان ينزع هذا التلاصق ، وبعد
__________________
إذا ضاقت الدنيا وأصبح لك هم كبير لا تقل ياربي لي هم كبير بل قل ياهم لي رب كبير
قمة التحدي أن تبتسم وفي عينك ألف دمعة