جميل من داخل القضبان وفتاة حنونة من خارج القضبان لا يبديان اية حركة وكأنهما قد تجمدا ، وفجأة فصل هذا الاتصال الروحي والمنظر الجميل الجنود اليهود بصراخهم لاعلان انتهاء الزيارة , ولكنهما لم يعيران اي انتباه لصراخهم ، تقدم الجنود واخذوا حنان ، صرخ يحيى احبك ..احبك ..سوف اتزوجك حين خروجي .... ابعدت عنه بالقوة، صرخ قولي احبك، اريد ان اسمعها منك، ولكنها خجلت من قولها وحين اخرجت ، قالت بصوت منخفض : احبك ..احبك .. ولكنه لم يسمعها ..... وليتها اسمعته تلك الكلمة التي حرم منها منذ زمن طويل ، وليتها شعرت بحاجته الشديدة لتلك الكلمة،حتي ربما لم ولن يحلم بها من جديد، وطيلة طريق عودتها وهي تؤمل انه قد سمعها، وتقنع نفسها انه قد سمعها .... وكانت تلك اخر مرة رأى يحيى فيها حبيبته .
مرت الايام ، وبدأ عد الزمن التنازلي ، لينذر بقرب خروج يحيى من الاسر بعد مرور ثمان سنوات من اسره ، خلالها لم يميز يحيى الليل من النهار، ولم يعد يميز الراحة من التعب او الحب من الكره او الاحساس من اللاشعور او الانسانية من اللانسانية حتى لم يعد يفرق الموت من الحياة .
خرج يحيى من السجن، واوصافه كما هي طويل القامة، نحيف الجسد، ابيض البشرة، بعينين خضراويين، وشعر اسود، ويوجد على كتفيه اللفحة القديمة التي لم يزلها منذ صغره، ولكن صفته الجديدة ان قلبه اصبح كالمجرة يحوي الاف الكواكب واعماق بعيدة لا نهائية. توجه بالسرعة القصوى الى بيت عمه ولكنه لم يجده، وكأن القرية قد تغيرت سأل وسأل وتبين انهم قد رحلوا من قريتهم او بالاصح قد هربوا مع اهل القرية، بسبب اليهود، للوهلة الاولى وقف يحيى وعادت به ذاكرته الى الماضي وتذكر الموقف ذاته حين عاد من مدرسته ولم يجد اهله، بل وجدهم ولكنهم كانو قد تركو هذا العالم وتوجهو الى عالم اخر، عالم مجهول لا يمكنه ادراكه.
لم يبكي يحيى هذه المرة مع ان حبيبته واهلها المتبقين له قد رحلوا واصبحو لاجئين في بقعة ما من الارض، نظر الى الاعلى وتذكر بعض الشباب المقاومين الذين تعرف عليهم داخل السجن وقد خرجوا، توجه لهم ، من بينهم شاب يدعى فدائي ، انضم يحيى لهم وبدأ يتدرب ويتدرب في صفوف المقاومة...........
بمرور الوقت احس يحيى انه حان وقت الوفاء بالوعود ، اتفق مع رجال المقاومة على ان يجعل من جسده قنبلة موقوتة يفجرها في الاعداء وينتقم ولو بشكل بسيط كما هي حياته ، ينتقم لامه ولوالده،لاخوته، لحبيبته وعائلتها، لقريته، لاهله في فلسطين كلها، جهز يحيى حزاما ناسفا ليكون الغد هو يوم الرحيل، راقب وراقب ، وجد مكان دخيل الغريب المسؤول عن قتل عائلته وعن المجزرة في قريته، واذا به في يافا في مركز امني يقال له الهوموسايد ، فرح يحيى بعد عثوره على دخيل الغريب.
رن منبه الساعة ليعلن بداية يوم جديد، ولا يزال يحيى لا يميز بين بداية يوم او نهايته، ولا تزال عيناه متيقظتان ولا يعرف السبب، ولا يزال قلبه ينبض، لا يعرف كم يبلغ من العمر، او كم تبقى لهذه النبضات، الان هو جالس وحده لا يبدي اية حركة ينتظر الموعد.................هذا كل ما يعرفه.
حانت لحظة الوداع، كل الايام التي عاشها مرت، كل يوم فيها كل ما يفعله هو تناول الطعام بما يكفي لبقاءه على قيد الحياة، او ربما لم يكن يعرف موعد الطعام لولا ابنة عمه وحبيبته، لم يكن يفكر الا في مواعيد واحلام.
مع انه حاول ان يبدأ حياته من جديد، ولكنه كان يكتشف انه منهك القوى، استنفذ كل ما يملك من تفكير او من ذاكرة، وحتى استنفذ كل الاحاسيس والمشاعر.، لا يملك اي شيء الان لاي انسان، حتى لو اراد النسيان او اراد ان يدخل في غريزة الحب، سرعان ما يفشل مكره، لانه لا يملك اية مؤثرات حقيقية، هو فقط ينتظر ذلك الشخص الذي اخذ منه كل ما هو ملكه، اخذ كل مشاعر او حنان او انسانية، بل اخذ منه كل مجرات واساطير وروايات الحب وانتزعها من قلبه ، يريد ان يعرف السبب، كان ينتظر فقط ساعة من العمر ، ان يدخل حفنة من الرحمة بل ذرات الى قلب ذلك الشخص، وتشعره انه اخطأ اذا سلب ما هو ليس ملكه، وان ياتي بكل قوة ويعيد كل ما اخذه ، بل يكفيه ان يعيد له فتات قليل من ما اخذه، فقط ليكمل ما تبقى من لحظات عمره........ ولكن هيهات، وان يعيد صيانة عقله وقلبه، وان يجمع اشلاء الفرحة والحب والحنان ويلصقها ويحبسها داخل قلبه، وان يتمكن من فتح صمامات قلبه التي اغلقت من زمن بعيد وحبست كل ما تملكه من نبضات حقيقية وحب واحاسيس وحبست نهرها الذي اروى الكثير من العطشى في زمن كانت تغذيته وفيرة ومستمرة دون انقطاع، ولكنها لم تحبس الان نهرها بخلا او انانية ، انما حبسته لتبقي فقط ما يكفي لاكمال نبضات حية، لم يعد يملك مصدر للتروية، لم يعد هناك امطار تغذي قلبه، لذا هو يعيش عصر من الجفاف، .......ولكنه يتسائل , لعصور الجفاف نهايتان..... فاي منهما سيلاقيه....... هو في حيرة، ولا يملك زمام الامور.......ولكنه ينتظر الاجابة..... وينتظر المصير .
وقف يحيى بسرعة وبقوة ، ولف الحزام الناسف ، وكل المتفجرات تحيط بجسده ، اكمل اخر ملاحظته في دفتره الحبيب وكانت اخر عباراته: "حبيبتي سامحيني لاني لم اودعك، فانا احبك، مع اني لا اعرف ماهو الحب ، ولكن كل ما اعرف اني احبك، كثيرا ، اكبر من حجم الاحزان والجروح في قلبي ، اعمق من ان اتمكن من الوصول الى نهايته في قلبي، اجمل من الحياة،ارق من العشق ، اجن من اعلى مراتب الجنون، اعذب من نهر عيوني، اطول من اللانهاية ، ابعد حدودا من اللاوعي ،اكثر بقاءا من الخلد، وكنت لا اريد الا ان نعيش معا، ولكن لم تعيشي الا في قلبي فقط،لان هناك من حال بيني وبينك، بل هناك من حال بيني وبين الحياة ...... حبيبتي سامحيني، فلم احظى بكلمة وداعا طيلة الحياة......سامحيني"......... وتوجه الى قبور عائلته ليودعهم، وقف امام القبو روصرخ : اني قادم امي حبيبتي ابي الحنون اخوتي ، اني قادم لكم ، ابي سانفذ وصيتك الان ، توجه يحيى الى يافا والى مركز الهموسايد الامني اليهودي ، انتظر من بعيد الى ان خرج دخيل الغريب ، تقدم يحيى ولا تزال لفحة امه الحبيبة على رقبته مطرز عليها " وتحيا فلسطين الى الابد" تقدم يحيى، وللمرة الاولى بعد تلك الحادثة ظهرت البسمة على وجهه التي فقدت منذ زمن طويل طويل جدا ، تقدم وتقدم انتبه الجنود اليهود ، صرخو توقف، لم يسمع يحيى بل كان يتقدم وشريط ذكريات الماضي امامه، امه وقبلتها، خبز امه ، حضنها ، بسمتها، صرخ جندي والسلاح بيده توقف ، ويحيى يبتسم ويتذكر حنان والده وقسوة الحياة الجميلة ووصية والده يوم الوداع : اعتني بنفسك ودراستك بحيث تقدم شيئا لاهلك و لقريتك ووطنك ، ويردد عبارات ، اخوه فرج ونظرة الانتقام التي رأها على وجهه بعد موته، اخته الصغيرة ودميتها، اطلق النار على يحيى لم يعير اي انتباه او خوف والضحكة تتعاظم وتكبر على وجهه، اصابت رصاصات جسده ولم يشعر بها ، اطلق المزيد الى قلبه ، ولكن هيهات ان يتوقف الان قلبه ، قلبه الذي تحمل كل هذه السنين وكل الاحزان والمواجع ، وما هي تلك الرصاصات ، واخذ قلب يحيى يضحك معه ويردد المزيد من الرصاصات انكم اغبياء بعد كل ما تحملت لن اتوقف الان، الدماء تسيل ويحيى يتقدم ببطىء اقترب من دخيل ، صرخ بفرح امي ابي اخوتي اني قادم الوصية الان انفذها لم اجد شيئا لاهلي ولقريتي ولوطني سوى روحي وجسدي فهل يكفي ، هما كل ما املك ولا املك اغلى منهما، وقال يحيى : اشهد ان لا اله الا الله وان محمد رسول الله ، وصرخ : وتحيا فلسطين الى الابد وضغط الزناد ............. لم يسمع سوى انفجار عظيم دوى في كل فلسطين ، وشوهد اشلاء تطايرت وتناثرت دماء في كل مكان ، وتهدم في المركز اليهودي، قتل الكثير الكثير من اليهود الجبناء ومن بينهم الاهم القاتل المجرم اليهودي دخيل الغريب الذي لم يعثر الا على اشلاء جسده المتعفن.
شوهد ايضا قطع من جسد الشهيد يحيى ، وشوهد جزء من وجهه مرسوم عليه ضحكة كبيرة لم يتم حصرها، لقد اكمل الان الالوان جميعها ، عينيه الخضراوين، وجسده الابيض، وشعره الاسود ، والدماء الحمراء الطاهرة المعطرة، لقد اكمل الالوان الان يحيى ، لم يبقى يحيى، بل عفوا بقي ، بقي في فلسطين ، ولم يدفن في مكان معين، بل ما اجمل ان تحوي الارض كلها جسده وروحه لتصبح فلسطين كلها حاضنة جسده الطاهر، جسده تناثر في كل شبر من فلسطين ، والى الان لا يوجد له قبر معين، ومن يشتاق له يأخذ حفنة تراب من اي بقعة من فلسطين ويقبلها فيشم رائحته الزكية ويسمع صوت ضحكته الطفولية يا الهي كم هي جميلة،نعم لم يتبقى من يحيى ذكرى محسوسة سوى دفتر مذكراته و اللفحة القديمة ذكرى من امه والتي لم يزلها عن عنقه الا بموته و التي شوهدت معلقة بقرب موقع الانفجار وفي مكان مرتفع جدا، وترف والهواء يحركها،وهي مشبعة بدماء قديمة واخرى جديدة مكتوب عليها : " وتحيا فلسطين الى الابد"................ ............ .................. .. ... .... .... وتحيا فلسطين الى الابد.
اخوكم السيم
__________________
إذا ضاقت الدنيا وأصبح لك هم كبير لا تقل ياربي لي هم كبير بل قل ياهم لي رب كبير
قمة التحدي أن تبتسم وفي عينك ألف دمعة