أني أنتظر و انتظر و احس بالعمر يتسرب و الأعوام تولي متسللة فتتملكني لوعة و يغشاني أسي أليم .. و لكني اتظاهر بالرضا و القناعة .. وماذا أستطيع غير ذلك . و انا لا أملك سوي التمني و الأنتظار !
إني امراة محرومة .. محرومة من الشئ الذي خلقت لأجله محرومة من نعمة الحياة التي تتوق إليها نفس كل انثي محرومة من الزواج و البنين و محرومة من كل شئ إلا الفراغ و الوحدة
ومع ذلك فلا يسعني سوي الصبر و ادعاء السعادة خشية السخرية و أنا التي لو كان الأمر بيدها لصاحت بكل ما في صدرها من لوعة مكبوتة ( اريد زوجا .. أريد بنين )
خمسة و ثلاثون عاما .. مرت ثقيلة بطيئة .. فما وهبت لي إلا زيادة في العمر و زيادة في الشعور بالحرمان .. اني لأنظر في المرآة فأري هبتها جلية في وجهي .. ذبول و نحول و شحوب
لقدد مللت الحياة .. و مللت العمل .. ما اسخف اولئك الذين يظنون ان المراة يغنيها العمل عن الزواج .. هم يظنون ان الزواج وسيلة للعيش .. او مورد للرزق .. ما اشد حمقهم ! لقد كرهت ضجيج الحياة و ضجيج العمل .. فهو ضجيج اجوف كالطبل قد خلا من موسيقي الألف و تغريد البنين اني احس بالرغبة في ان استريح من حياتي برهة .. أني اتوق الي شئ من التغيير ايا كان
كم سرني أن انتقل إلي هذه الدار النائية في احدي الضواحي لاشك ان الصيف فيها سيكون خيرا منه في جوف المدينة و لا شك اني سأجد تسلية في حديقتها الواسعة .. انها تحتاج الي كثير من العناية و التنسيق .. ثم أن ةأجرها أقل من كثيرا من اجر الطابق الضيق الذي كنت اقطنه في وسط المدينة .. فهي من تلك الدور التي يعرض عنها السكان فتظل خالية .. لا لشئ ألا لمجرد ما يشيعه عنها الناس من انها مسكونة و ما تجود به خيالاتهم عما رأوه فيها من جن وما صادفوه من ارواح و اشباح
و لم أتردد برهة في الأنتقال إليها .. وقلت لنفسي ضاحكة : من يدري هساي ان أجد في الجن و الأرواح ما يؤنس وحدتي .. و يذهب وحشتي
وسرتني حياتي في الدار الجديدة .. فقد احسست بشئ من التغير وخاصة انني قد بدأت عطلة الصيف .. فصممت علي أن أتمتع بحياة جديدة .. و أن أنعم بالحديقة و الهواء .. و الا أفعل شيئا سوي النوم و القراءة
مر الأسبوع الأول و أنا منهمكة مع البواب و أمراته في تنظيف الدار من تلك الأتربة المتراكمة .. و في تنسيق الحديقة و أزالة الأعشاب و الحشائش .. حتي ذهب عنها ذلك المنظر الموحش الذي كانت تبدو به
ولا أستطيع أن أنكر ذلك الشعور بالرهبة الذي كان يتملكني في بادئ الأمر .. عندما كنت اذهب الي الفراش بعد ان اطفئ النور .. أو عندما اسمع فرقفعة هينة او صوتا يصدر من هنا او من هناك من تلك الأصوات التي لا يخلو منها اي بيت .. كصوت نافذة يغلقها الهواء .. أو قطة تقفز في الحديقة أو تمشي علي السطح .. و لكن الرهبة اخذت تزول علي مر الأيام ووحل محلها اطمئنان الي كل ما في الدار
وفي ذات يوم جلست في ركن ظليل بالحديقة .. و أخذت اتسلي بقراءة احدي القصص و قد جلست امامي أمرأة البواب ترتق بعض الثياب واحسست بتعب من القراءة فألقيت بالكتاب جانبا .. و تثائبت في كسل .. و بدأت اجاذب المراة اطراف الحديث حتي جرنا الحديث الي ذكر تلك الأشاعة التي يطلقها الناس علي الدار و ما يرجفون به من انها "مسكونة " وكيف تسبب ذلك في ان تمكث الدار مهجورة طوال تلك المدة ، و قالت المرأة :
- انا لا انكر يا سيدتي ان هناك دورا " مسكونة " و لكن الواقع ان هذه الدار بالذات مسكونة و لكن الواقع أن هذه الدار مظلومة بين هذه الدور ، لأني لم ار فيها شيئا قط ، و كل ما سمعته عنها قصة قديمة لست ادري مداها من الصحة و هي أن صاحبها الأول قيد شيدها لتكون سكنا له ولزوجته الجميلة المحبوبة ، و أن حياتهما كانت نموذجا لحياة هادئة و قد زادت سعادتهما بذلك الطفل الجميل الذي انجباه و الذي نما وملأ البيت تغريدا و ترنيما و في ذات يوم غابت الزوجة عن البيت ثم اكتشف الرجل انها فرت مع عشيق لها تعودت ىأن تذهب إليه في غفلة منه و كاد الرجل و لكنه تجلد و تمالك ووجد في ولده العزاء كل العزاء و سرعان ما شفي الله جرحه و أذهب لوعته و بدأ يجد السعادة في حياته مع أبنه و أخذ يكرس لتربيته و العناية به كل وقته حتي كان ذات يوم وقد جلس الرجل في الحديقة يقرأ فسمع فجأة صوت سقوط جسم يصطدم بالأرض و صرخة مدوية تشق السكون المخيم و قفز من مكانه كمن لدغته عقرب فوجد الصبي قد هوي من الشرفة وهو يلهو فدق عنقه و مات لساعته
وهجر الرجل الحزين الدار فلم يعد اليها قط و لا يدري احد ما حل به بعد ذلك .. ربما قد جن .. و ربما قد انتحر .. أنها قصة قديمة .
و أنتهت المرأة من قصتها التي لا تدري هي مداها من الصحة و التي قد تكون محض خرافة ومع ذلك فقد انتابني من سماعها شعور بالحزن العميق و أحسست بعطف شديد علي الرجل الذي ربما لم يكن له وجود إلا في خيال المراة او في خيال من قص عليها القصة
و لا أدري ما الذي جعل القصة تتجسم في مخيلتي و لا أدري ما الذي جعلني ازج بنفسي بين ابطالها فأقارن بيني و بين الزوجة الخائنة التي وهبت لها الحياة كل ما حرمتني اياه .. وهبت لها الزوج الوفي الأمين و الأبن الذي اتلهف عليه .. فركلت كل هذا بقدمها وفرت من عشها لا تلوي علي شئ . اتراني لو كنت مكانها اكنت افعل ما فعلت ؟ و تخيلت الرجل امامي يعدو في الحديقة ضاحكا خلف الصبي .. و تخيلت انهما زوجي و ابني ، فأحسست بنشوة عجيبة و قلت لنفسي : ان المرأة الهاربة لاشك بلهاء مخبولة كافرة بنعمة الله
وفي هذه الليلة بدأت احس اول تغير يطرأ علي الدار و خيل إلي اني اسمع وقع اقدام تسير في الحجرات .. و أحسست بخوف شديد و لكني وجدت الحجرات خالية فلم اشك انني واهمة .
ومرت الأيام فازداد شعوري بالأصوات و الهمسات حتي كانت تمر بي اللحظات لا اشك في خلالها أن هناك اشخاصا غيري يتحركون في الدار و لكني لا ابصرهم و في ذات ليلة جلست أقرا قبل النوم و سمعت الصوات واضحة تمام الوضوح كأن اصحابها يجلسون في الحجرة المجاورة
و كأن الصوت صوت طفل و رجل وسمعت الطفل يقول( غني لي يا ابوح .. يا أبوح )
و أجابه الرجل متاسائلا : " ثم تنام ؟ "
- أجل
و بدأ الرجل يغني ( يا أبوح يا أبوح كلب العرب مدبوح )
وصاح الطفل فجاة متسائلا ( ومن الذي ذبحه ؟ )
وترك الرجل برهة قبل أن يجيب في حيرة " لقد وجدوه مكذا مذبوحا .. و لم يعثروا حتي الأن علي القاتل "
و رغم ما اصابني من خوف وقتذاك لم استطع أن أمنع نفسي من الضحك بصوت مرتفع .. و خيل الي أن الصوت قد وصل الي الطفل و الرجل .. فقد كفا عن الحديث .. و تسللت الي الغرفة المجاورة فلم اجد بها أحدا
ومن ذلك الحين أزداد يقيني بوجود الرجل و الطفل .. و بدأت أحس بهما في كل مكان في الدار .. و اخذت انصت الي تلك الأحاديث التي تدور بينهما دون ان أرسل صوتا أو حركة حتي لا يكفا عن الحديث .. فقد كنت احس من وجودهما بنشوة عجيبة مشوبة بشئ من الخوف .
وخيل إلي اني قد بدأت لعبة خطرة .. لعبة لم يحاولها أحد سواي .. قد يكون الطرف الأخر فيها من صنع الوهم ، ولم أجد ما يمنع أن استمر في اللعبة ، ما دمت احس منها بمتعة و لكني صممت علي أن احيط نفسي بالكتمان و ألا أنبأ احدا بتلك الأشباح التي احس بحركاتها و اسمع اصواتها .. فقد خشيت أن اتهم بالجنون .. علي أني لم اكن في يوم ما اوفر عقلا مني الأن
وبدأت أحاول أن ابصر الرجل و أبنه فما كنت اسمع همسا أو صوتا حتي اتسلل في اتجاهه و لكني كنت لا اري شيئا ومع ذلك كنت واثقة من وجودهما .. أجل .. من المحال أن يكونا غير كائنين .
و استيقظت ذات صباح علي صوت اشبه بصوت دراجة صغيرة من دراجات الأطفال ذات العجلات الثلاث تتحرك علي أرض الصالة فمددت رأسي قليلا لأبصر الصالة من خلال الباب فرايت عجبا
لقد كان الطفل هناك .. بدمه و لحمه .. ووجنتيه المتوردتين وشعره الأصفر المدلي علي جبينه ، وشعرت بغبطة شديدة ووجدتني اناديه بصوت كالهمس و لم يبد عليه انه سمعني ، ولكنه أختفي مرة واحدة .. اجل لقد أختفي ، دون أن أعرف كيف أختفي ، لقد كان هناك منذ ثانية .. وفي الثانية التي تلتها لم يكن هناك .. !
وفي ذلك اليوم طردت الخادمة فقد رغبت ان أكون في الدار وحيدة ثم رايته كثيرا بعد ذلك يروح و يغدو في الدار .. يضحك تارة و يصيح أخري .. و بدأ يعبث بأثاث الدار و يقلب المقاعد ليتخذ منها ( حميرا ) يمتطيها
و لم يكن الطفل يراني أو يحس بوجودي و لم يكن صوتي يصل الي سمعه ومع ذلك فقد اشعر أنه اصبح قطعة مني و لم أحاول أن أترك الدار بعد ذلك لحظة واحدة أو أقابل احدا فقد سرتني الحياة مع الطفل و أبيه ، و أن كنت لم أبصر أباه بعد
وكنت أتهرب من رؤية البواب و زوجته و منعت البستاني من أن يباشر عمله في الحديقة فقد كان الطفل كثيرا ما يلهو بعمل بيوت من الرمل فيها و كنت أكره أن يراه الناس .
وفي ذات يوم اقبلت علي امرأة البواب و رأيتها تنظر إلي نظرات بها كثير من الرأفة و الحزن و أنباتني المرأة انني قد هزلت كثيرا و أنني يجب علي ألا أسجن نفسي في الدار علي هذه الحال
و شكرت المرأة و أنبأتها في اقتضاب أني احس ميلا الي الوحدة و أني لا أرغب في الخروج و تركتني وهي تهز رأسها في دهشة و حيرة
و لم تكد تنصرف حتي قمت إلي المرآة وكانت هذه اول مرة - منذ بدأت أنهمك في حياتي الجديدة – أقف فيها أمام المرآة ، و راعني تلك الصورة التي أبدو عليها .. وهالني ذلك الأصفرار و الشحوب .. و ذلك الشعر المهمل الشبيه بشعر أمراة مجنونة ومددت يدي الي المشط لأعيد تمشيطه و تصفيفه و نظرت في المرآة فلم أجدني وحيدة !
__________________
انا
منتدي عالم الأسرة و المجتمع