كنت أعتقد أن هذا الجواب فيه إقناع .. لكن طرح أحدهم سؤلاً قال فيه : ألا يكون محمد بن عبد الوهاب قد أخذ منهج السابقين وأحياه من جديد واتبع طريقتهم ؟!
قلت : أولاً : لبعد الاتصالات بين المكانين فإن المعلومات لا تصل ولم يكن لدعوة عبد الرحمن بن رستم ذكر في تاريخ الجزيرة العربية ، بل كما مر بنا ، لم يكن لها تصنيف عند الدارسين والراصدين للملل والنحل والأهواء ؛ كالشهرستاني وابن حزم ، ولا في ردود ابن تيمية ، وابن رستم مات قبل هؤلاء بزمن . مما يدل على أن دعوة عبد الوهاب بن رستم ( الوهّابيّة ) لم تتعدّ الشمال الإفريقي والأندلس قبل ضياعها .
ثانيا : أن دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب تختلف عن دعوة جميع الفرق المخالفة لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأنها دعوة تجديدية على منهج السلف الصالح ، ولم يأت بشيء يخالف ذلك .
ثالثاً : تسمية الدعوة التي قام بها الشيخ محمد بن عبد الوهاب بـ ( وهّابيّة ) نسبة إليه خطأ لغوي ، لأن والده لم يقم بها ، و إلا لأشترك في هذه النسبة الوالد وأولاده ، ومحمد واحد منهم لتصبح نسبة مشتركة .
رابعاً : الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته لا يوافق الإباضية في آرائهم ، ولا غيرهم من الفرق التي ذمها علماء أهل السنة منذ نشأت في ديار المسلمين ، وكتبه ورسائله توضح ذلك .
خامساً : أن ما نسب إليه من أمور ، آتي لها بشواهد – إن رأيتم في الوقت متسعاً _ من كلامه وكلام تلاميذه بالتبرئ مما نسب إليه كذباً وزوراً ، ويقول في كلامه : سبحانك ربي هذا بهتان عظيم . فكيف ينسب للإنسان شيء هو يتبرأ منه ؟؟!
لكن سوف نستكمل الحوار ، ولعلنا نجد في هذه المكتبة – بحول الله – ما يزيل ما علق بالأذهان من شبهة ، والحكمة ضالة المؤمن .
قلت : ولعلنا نجد عندكم كتاباً تاريخياً عن منطقتكم اسمه ( تاريخ شمال أفريقيا ) من تأليف أحد الغربيين في فرنسا .. واسم المؤلف : شارلي أندري ، وقد ترجمه إلى اللغة العربية محمد مزالي رئيس وزراء تونس الأسبق ، والبشير بن سلامة ..
قال الدكتور عبد الله : نعم موجود .. فأحضره وهو ثلاثة أجزاء .
وباستعراض الفهارس : قرأنا في الجزء الثاني ، عن ممالك الخوارج ، ومن ضمنها مملكة تاهرت ، التي هي الدولة الرستمية ، حيث توسع المؤلف في الحديث عن معتقداتها واتساعها ومعالمها الحضارية ، وتسميتها بالوهابية ، نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم ، الذي خالف أهل ملته ، كما أبان في عشر صفحات ، بأن هذه الوهابية – الرستمية – تخالف أهل السنة في المعتقد .
ثم قلت : ولعلك تحضر أيضاً كتاب : ( المغرب الكبير ، العصر العباسي ) للدكتور : السيد عبد العزيز سالم ، إن كان موجوداً في هذه المكتبة .
قال : نعم موجود : ثم أحضره .
فقرانا سوياً بعد إحضاره في الجزء الثاني عن الدولة الرستمية ، في مدينة تاهرت في المغرب : أن عبد الرحمن بن رستم ، وهو من أصل فارسي ، عندما أحس بدنو أجله في عام 171 هـ ، أوصى لسبعة من خيرة رجال الدولة الرستمية ، ومن بينهم ابنه عبد الوهاب ، ويزيد بن فنديك : وقد بويع عبد الوهاب ، مما ترتب عليه نشوء خلاف بينه وبين ابن فنديك .
وقد انقسمت الإباضّية التي هي ديانة ابن رستم ومن معه ، حيث نقلها من المشرق إلى المغرب إلى فرقتين : الوهابية نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم ، والنكارية ، ودارت بين الطرفين معارك ومقاتل ، تنهزم فيها النكارية ، إلى أن قتل زعيمها : ابن قنديرة ، وفي حالة ضعف من النكارية ، انضموا إليهم الواصلية المعتزلة .
ثم قال : وقد عزم عبد الوهاب هذا على حج في آخر حياته ، إلا أن أتباعه نصحوه بالبقاء في ( نفّوسه ) خوفاً عليه من العباسين .
ثم قلت : ولو رجعنا إلى كتاب ألفرد بل ، عن الفرق الإسلامية في الشمال الإفريقي ، من الفتح الإسلامي حتى اليوم ..لوجدناه في موضع آخر يقول : الخوارج الوهبيين الذين سمّوا نسبة على عبد الله بن وهب الراسبي ، الذي قاتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه في النهروان هم : خوارج أباضية ، وعن انقسامهم قال : بأن أباضية المغرب ، في تاهرت منهم ، وهم الذين كانت ولتهم الرستمية في شمال إفريقيا ، وكانوا أشد الفرق تعصباً . واتباع عبد الوهاب بن رستم ، الذي سميت فرقته بالوهابية نسبة إليه ؛ لما أحدثه في المذهب من تغييرات ومعتقدات .
وقد تحدث في هذا الأمر قرابة اثني عشرة صفحة ، واخبر أنهم يكرهون أهل السنة .
ثم قلت : من هذا الرصد وغيره من كتب العقائد والسير ، في تاريخ شمال أفريقيا ، يبرز أمام طالب الحقيقة ، ما حرص عليه الكاتبون من تفنيد لمعتقدات الخوارج الإباضية الرستميين ، الذين منهم الوهابيون – نسبة إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم - ، منذ خرجت هذه الفرقة بالقرن الثاني الهجري ، حيث أكدت ذلك جميع المصادر .
والشيخ محمد بن عبد الوهاب ، الذي قام بدعوته للقضاء على الشوائب التي أُدخلت على الإسلام في صفاءه ونقاوته ، رغبة منه في تصحيح العقائد ، وتنقيتها من مداخل الشرك والبدع ، مثلما سار من قبله دعاة منهم : أحمد بن حنبل في العراق ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في الشام ، والعزّ بن عبد السلام في مصر ، و الشاطبي في المغرب والأندلس ، والأمير الصنعاني في اليمن وغيرهم .. كلهم وغيرهم من أئمة الإصلاح والتجديد ، يخالفون ملل الخوارج ، وما يدعون إليه من معتقدات و إعتزال وبدع ، تخالف ما درج عليه أهل السنة والجماعة ، وهذا مرصود في كتب : الملل والأهواء والنحل .
فحصل بحمد الله الاقتناع ، خاصة بعد أن تردد اسم الوهابية في مصادرهم التاريخية والعقدية مرارا ، مع إيضاح نماذج مما يدعون إليه . لكنني أحببت ترسيخ هذا المفهوم عندهم ، بما لا يدع مجالاً للشك ، ولكي يستفيد منه من يطّلع عليه عند تدوينه ، وفقاً لكلام البلاغيين : زيادة المبنى ، زيادة في تمكين المعنى .
فقلت : ما رأيكم إذا اتسعنا مع المصادر ، وبرز أمامنا من الحقائق التاريخية زيادة عما ذكر ، ما يدل على أن علماء بلادكم وحكامها قد اهتموا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، عندما حرص آل سعود على نشرها ، وتبليغها لحكام المسلمين بالمكاتبات ، وبعث المندوبين إقتداء بأسلافنا في أداء الأمانة ، وتبليغ ما قاموا من أجله ، أخذاً من قول الله سبحانه : ) وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسئلون ( ، حيث قام حكام المغرب الأقصى وعلماءه بالتقصي والمحاورة ، ثم اقتنعوا بسلامة هذه الدعوة .
قالوا : نعم ..نريد المزيد ،بالشيء المفيد ، المقنع والموثّق. .
قلت :سوف يكون ذلك إن شاء الله.
ثم قلت :لعلكم تعلمون أن الإمام سعود بن عبد العزيز- وهو الإمام الثالث من الدولة السعودية الأولى- قد بعث بعدما دخل مكة في عام 1219 هـ ، رسائل لملوك شمال أفريقيا : تونس والمغرب الأقصى وغيرهم ، يشرح فيها حقيقة التوحيد وأصول الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، صافياً نقياً من الأمر التي أدخلت عليه ، وبلغ للناس بصدق وأمانة ، عليه من ربه أفضل الصلاة وأزكى التسليم ، وهي رسالة من ثلاث صفحات ، حسبما نشرتها مجلة ألمانية اسمها إسلاميكا Islamika ، مع دراسة باللغة الألمانية ، لما تعني الدعوة التي قاموا بها ، من أحد المستشرقين .
وكانت هذه الرسالة بمحتواها ونصها العربي ؛ ما قام به الإمام سعود ووالده من قبله ، من عمل وفق أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم للدعوة إلى دين الله على نور من الله ؛ ليزيل ما قد يكون علق بالأذهان من أكاذيب قيلت عن الدعوة ، ونفاها الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، قبل وفاته ( 1115 – 1206 هـ ) ، وفي ردوده بقوله : سبحانك هذا بهتان عظيم ، وقبلنا كذب على صفوة الخلق صلى الله عليه وسلم ، كما في رسالته رحمة الله عليه لعبد الله بن سحيم وهو من المعارضين له ، وفي رسالته إلى عالم بغداد الشيخ عبد الرحمن السويدي رحمه الله تعالى : بعد أن بيّن لهذا الأخير عقيدته ، و ما يدعو الناس إليه من إخلاص العبادة لله تعالى ، وإنكار ما فشا في الناس من أمر الشرك ، من دعاء الأموات ، والالتجاء إليهم من دون الله تعالى قال : فقام بسبب هذه الدعوة من عارضنا في ذلك ، وافترى علينا الكذب – إلى أن قال : - فإني ألزمت من تحت يدي بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وغير ذلك من فرائض الله ، ونهيتهم عن الربا وشرب الخمر وأنواع المنكرات ، فلم يمكن الرؤساء القدح في هذا وعيبه ؛ لكونه مستحسناً عن العوام ، فجعلوا قدحهم وعداوتهم في ما آمر به من توحيد ، وأنهى عنه من الشرك ، ولبسوا على العوام : أن هذا خلاف ما عليه أكثر الناس ، وكبرت الفتنة جداً ، واجلبوا علينا بخيل الشيطان ورجله ، منها : إشاعة البهتان بما يستحي العاقل أن يحكيه ، فضلاً على أن يفتريه ، ومنها ما ذكرتم : أني أكفر جميع الناس إلا من اتبعني ، وأزعم أن أنكحتهم غير صحيحة ، ويا عجباً كيف يدخل هذا في عقل عاقل ؟ هل يقول هذا مسلم أو كافر أو عارف او مجنون ؟؟!!.
وبعد أن عدد اموراً كثيرة مما نسبت إليه قال : والحاصل : أنما ذكر عنا من الأسباب غير دعوة الناس إلى التوحيد والنهي عن الشرك ، فكله من البهتان ، وهذا لو خفي على غيركم ما خفي عليكم .
ثم قلت : ومن رغبة الحكام والعلماء في المغرب ، التقصي ، نرى الحقيقة التالية :
1- تأثر بهذه الدعوة واهتم بها وبمحتواها بعد الدراسة والتعمق ، سلطان المغرب الأقصى : سيدي محمد بن عبد الله العلوي جد الأسرة الحاكمة الآن : -
حيث قام بمحاربة البدع في بلاده ، كما حارب تشعب الطرق الصوفية ، ودعا إلى الاجتهاد ، وإلى انتشار السنة ؛ لأنه ذلك الوقت من أقوى الحكام المسلمين ، ولان بلاده قد اكتوت بنيران : الباطنية العبيدية ، وأصحاب البدع مع تفشي البدع ، والوهابية الرستمية الخارجية الباطني ، علاوة على الغزو الصليبي للشمال الأفريقي بعد سقوط الأندلس في أيدي الإفرنج .
وقد ذكر محمد جمعه في كتابه : ( انتشار دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب) أمورا من أعمال سيدي محمد بن عبد الله العلوي ، فيما يتفق مع دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، و حرصهما على تنقية التوحيد من البدع والشرك مع الله .
هذا السلطان هو الذي وصفه المؤرخ الفرنسي : شارلي جوليان ، في كتابه : تاريخ أفريقيا الشمالية الذي ترجمه إلى اللغة العربية : محمد مزالي والبشير بن سلامة الذي مر بنا ذكره قبل قليل .
فقرانا في الجزء الثاني قوله : وكان سيدي محمد ، وهو التقي الورع ، علم بواسطة الحجيج بانتشار الحركة الوهابية في الجزيرة العربية ، وتأييد آل سعود لها ، وقد أعجب بعباراتها ، وكان يؤثر عنه قوله : ( أنا مالكي المذهب ، وهابي العقيدة ) وقد ذهبت به حماسته الدينية إلى الإذن بإتلاف الكتب المتساهلة بالدين والمحللة لمذهب الأشعرية ، وتهديم بعض الزوايا .
يتبع