تتمة معالي الوزير
أنطلق إليها مع والدي بعد صلاة الفجر ((بورك لأمتي في بكورها)) ما أكسبني ميزة أتفوق بها عل بقية أشقائي فأنا الوحيد فيهم أخرج أولاً من البيت وأذهب مع سائق خاص وفي سيارة خاصة بينما هم يذهبون مشياً على الأقدم, للتاريخ أسجل أن كل ما صاحب رحلتي التعليمية التربوية مع والدي هي مميزات ناهيك عما توفره لي المدرسة (الحلقة) التي كنت أذهب إليها صباح كل يوم من مساحات رحبة لممارسة ألعابي بكل راحة واستمتاع , كما أن توفر صناديق الخضار التي كنت أبني منها قصور وأشيد بها ممالك وهو ما أنعكس علي إثراءً في تلك الفترة أكسبني خيالاً خصباً ساعدني بعذ ذلك أن أكون الرقم الأصعب في حصص الأنشاء والمسرح المدرسي طوال فترة وجودي طالباً في مدارس الحكومة, ولا أنسى رحلاتي المكوكية بين ( البسطات) والتي كانت تمثل لي حصص التربية البدنية ما كان لها كبير الأثر على لياقتي البدنية وجعلي أتمتع بكاملها .ثم بعد ذلك تنواع المناشط اللا منهجية و وسائل الجذب المتعددة فهناك ترى من (يحرج) على خضروات وآخر يبيع الفواكة وقريب منه تجد من يبيع الطيور أو الأرانب أو الدجاج إنها معمل للعلوم والأحياء بل أفضل منه للواقعية الكبيرة فيها هذا بالاضافة الى التنوع الثقافي والتعدد العرقي فكل البشر لهم ممثل في مدرستي ولعل أجمل ما خرجت به من كل هذا, أن الحياة بين البسطاء تكسبك بساطتهم فلا تنزعها منك تعقيدات الحياة ما حييت.ثم حين ينتصف النهار أنطلق لوالدي فأجده هو بقية (العمال) تحت احدى المضلات يعدون وجبة الفطور وهي الفترة الأجمل من يومي الدراسي فبالإضافة إلى تنوع الطعام وتوفره على كامل ما يحتاجه الجسم لينمو هناك الموقع حيث الفطور تحت مضلة مستوفيه جميع الشروط الصحية هواءها بحري وقبلي وكل شئ, يلقاني والدي بالبسمة فيخرج حقيبتي بينما أكمل فطوري ليصحح لي أو ليكلفني بواجب جديد أسارع بحله فور إنتهائي من الأكل و بعد أن أكمله أنطلق لمعلمي لأريه ما قمت بكتابته فلا ألقى منه إلا كلمات التشجيع والثناء حتى وإن أخطأت يوجهني بطريقة المتلطف المحب فلا أنسى ذلك أبداً ولا أقع في نفس الخطأ مرةً أخرى, ثم حينما يأتي وقت الإنصراف أودع كل من في مدرستي ولا أنسى تلطفهم وحبية يبدونها تجاه المتعلم الصغير.
طريق العودة الى الدار كان جميلاً بقدر الذهاب إلى المدرسة فطوال الطريق كان والدي يستمع لي ولكل ما مر بي في يومي الدراسي بل يصغي لي بكل اهتمام ويشاركني الحديث حتى أنه في بعض الأيام كان يغني لي بعض الأغاني القديمة وكم كنت أستمتع وأستمع بكل انتباه وهو يردد أغاني نصري شمس الدين أو أغاني فهد بلان أو بعض أغاني التراث والتي مازلت أحفظها إلى الآن .في البيت وفي فترة المساء كان يستكمل معي معلمي الدرس فلا يتأخر عني ولو كلف الأمر ما كلف فتجده حريص أشد الحرص على أن يرى ما أنجزته من واجبات منزلية ثم يقوم بتصحيحها ويوقع باسمه في دفتري مع الكثير من عبارات المديح والتشجيع ثم بعد أن ينتهي الدرس تأتي أجمل وأقوى مرحلة وهي مرحلة القراءة الحرة فوالدي قارئ جيد ويحتفظ بالعديد من الكتب في غرفته وكان يداوم مرتين أو ثلاث مرات اسبوعياً على أن يحكي لي من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وقصص الصحابة وكان الأبرز في سرد التاريخ والقصة يحكيها بروح الأب وبلسان الحكواتي المتمرس وكان يصيغها ويكيفها لتصل لعقل طفل في الخامسة , ما أبقها راسخة إلى الآن في ذاكرتي فمن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومالقيه في سبيل الدعوة الى قصص الخلفاء وفتوحاتهم الى سير الصحابه وقصصهم مع الدعوة والجهاد والعلم والعمل , هو والدي من عرفني بصقر قريش ومشي معي رحلته من الشام حتى الخلافة في الأندلس وما لقيه في سبيل إقامتها , هو والدي من عرفني بصلاح الدين وبالأقصى هو والدي من أخذني إلى عنان السماء وهو يحكي رحلة المصطفى صلى الله عليه وسلم وكيف مر بالأقصى وصلى فيها ثم أنطلق إلى ربه في السماء هو والدي من قص علي حطين وكيف استعدنا بيت المقدس . الله كم ليلةٍ نمت متوسداً درة عمر وسيف خالد وكم لاعبت هرة الدوسي في المنام وركبت حصان صلاح الدين وحملت سيفه , هو والدي من علمني كل ذلك . . .
مرت الأيام بي بين كل هذا وفي النهاية أنقضت رحلتي التعليمية مع والدي أنتهت فصول التجربة الأجمل في عمري وكأنما أنتهى معها عمر , وهنا أستقبل عمراً آخر يختلف عن ما عشته وخبرته مع والدي , وها أنا أبدأ أول خطوة باتجاه مدارس الحكومة , أستيقظ صباحاً كبقية الرفاق , عادي مثلهم , نمطي اليقظة والعبور , لا أختلف عن أي واحد فيهم لا شكلاً ولا مضموناً .. لا أنسى لوالدي ما حييت رحلة تعليمة كانت الأروع لي على وجه الأرض ولا أنسى له أنه في أول يوم لي في المدرسة الحكومية لم يشأ أن يتركني ألاقي مصيري المجهول أو أن أشكو مرارة الفقد وعدم وجوده إلى جانبي بعد أن انزرع سنةِ في كياني , فذهب معي إلى المدرسة في أول يوم , قضاه إلى جانبي كان يثق أنني سأشعر بالغربة وبفارق كبير هو وحده يعرفه , فارق كبير بين أن أكون تلميذا في مدرسة والدي وبين أن أكون في مدرسة أخرى , هو وحده يعرف هذا الفرق لأنه وحده بعد الله من صنع هذا الفرق , و لن أنسى وهو يخرج من المدرسة يخطو قليلاً ثم يتوقف ويلتفت ليطمئن أني لن أبكي أو أحاف , لن أنسى ذلك اليوم المر والذي بنى حداً فاصلاً بين العمر الأجمل قضيته سنةً في مدرسة والدي ولحظات قضيتها في التعليم على امتداد 27 سنة .يا الله .. يا الله .. سبع وعشرون سنة لا أذكر منها إلا أقل القليل , وسنة واحدة قبلها لا أنسى لحظة منها و لم يسقط من ذكرتي يوم واحد من كل عمري الذي قضيته مع والدي . هذا هو والدي .. نعم .. والدي الذي زرع عمره وعمري سنة في ذاكرتي , زرع العلم , زرع الدين زرع المبادئ , زرع القيم , والدي زرع كل شئ . والدي زرع أمة بأسرها في حسدي الصغير هل بوسع رجل أن يزرع أمة في ذاكرة صبي وفي عقله وفي وجدانه وفي كل خلايا جسده و في سنة واحدة فقط !!! .
هذا أدعى لي أن أرفع قضيةً على كل وزراء التربية والتعليم في الوطن العربي لأنهم أنتحلوا صفة أبي وشخصه ولم يزرعوا شيئاً !!!
عذراً والدي حاولوا أن يسرقوا منكم معاليك
التوقيع / ܓܨܓابن معالي وزير ܓܨܓ
__________________
๑۩ لا إلـﮧ إلاَّ اللـَّـﮧ مُـכـمَّــدْ رَسُــولُ اللـَّـﮧ ۩๑