حقيقةً موضوعك كبير جداً، وعميق جداً، وتُؤلّف فيه كتب، وتقام لأجله دورات، ولكني سوف أسدّد وأقارب قدر الإمكان.
* أرى تحت سطح كلماتك جذور موهبة أدبية. والموهبة، علمياً، تلد مع الإنسان فطرياً، وتطفو على شخصيته منذ سن مبكرة، وتُثمر في آواخر الصبا وأوائل سن الشباب، إذا أجاد الموهوب رعايتها وسقايتها، واعتنى بأغصانها وأوراقها.
* لا علاقة لموهبة الكتابة بالتخصص الأكاديمي. وكثيرٌ من روّاد الأدب العربي لم يدرسوا الأدب أكاديمياً، ورغم ذلك أسّسوا مدارس عديدة في الشعر والنثر كعبدالرحمن منيف وعباس العقاد وعمر أبو ريشة.
* حتى يكون الأديب مؤثراً، لا بد أن يكون مبدعاً. وأعني بالإبداع، هنا، هو الإتيان بِشَيْءٍ مُبْهر لم يكن من قبل. فخيال الأمير الشاعر " بدر بن عبدالمحسن " ووصفه لم أرَ له نظيراً، وإحساس شاعر الأطلال " إبراهيم ناجي " وعواطفه الجيّاشة الصادقة تنهمر على قلب القارىء كشلّال ماء، وبلاغة الروائية الكبيرة " أحلام مستغانمي "، وطريقة نظرتها للأشياء بمجاهرها المختلفة؛ رائعة جداً.
* يجب عليك تشكيل أسلوبٍ مبدع يحدّد اتجاهك في الكتابة، ويعكس شخصيتك الحقيقية. ولتشكيل ملامح هذا الأسلوب، عليك النظر في ذوقك الأدبي، دون أي تأثير من أحد أو تقليد لأي أديب ( مهمة للغاية هذه الجزئية؛ لأنها سوف تمنحك مستقبلاً شخصيتك الأدبية المستقلة ). ماذا يعجبك في قراءة الأدب عموماً ؟ إذا يعجبك الخيال والوصف، فعليك القراءة المتواصلة، مثلاً، لنزار قباني. وإذا يعجبك الإحساس، فعليك القراءة، مثلاً، لإبن زيدون. وإذا يعجبك الأسلوب القوي العجيب، فعليك بالقراءة، مثلاً، للجاحظ والمتنبي. وإذا تعجبك البلاغة، فعليك بالقراءة، مثلاً، لعلي الطنطاوي. وإذا تعجبك الحداثة والرمز، فعليك بالقراءة، مثلاً، لأدونيس وبدر شاكر السياب.
* بعد تحديد اتجاه بوصلة ذوقك الفني الأدبي، عليك بالسير في القراءة الواعية الفطنة شعراً ونثراً. وهذه القراءة تختلف كلياً عن القراءة السريعة الخاطفة لأجل الثقافة أو تحصيل العلم. إذ في هذه القراءة، يكون المرء حاد الذهن جداً، ومستمتعاً وسعيداً، وتمر عليه أوقاتٌ طويلةٌ دون أن يمل، ويبحر مع ما يحب من خيال أو وصف أو عواطف أو قوة أو بلاغة أو غموض. هنا المشاعر ( العفوية ) مهمة جداً؛ لأنها مع التكرار في كل قراءة، سوف تنغرس في عقلك الباطن، الذي هو مستودع مواهبك ومخزن مهاراتك، والذي سوف تغمسين فيه قلمك للكتابة مستقبلاً بأسلوبك الفريد. إذا وصلتِ إلى هذه المرحلة، فأنتِ في الاتجاه الصحيح ومع هواياتك الحقيقية، والتي هي من ضمن ما تسمّى في علم التخطيط الاستراتيجي ب " استنباط القيم "؛ التي تتناسل منها أهدافنا في الحياة.
* ما ذكرتِه عن كتاباتك القصيرة جداً، فإن في النثر أياً كان حقله؛ قصة قصيرة أو مقالة أو رواية، يفضّل أن تكتمل الصورة في ذهن الأديب فكرةً وموضوعاً وتفصيلاً قبل أن تجد طريقها على الورق، حتى لو استغرق ذلك منك أسابيع أو شهور أو حتى سنوات ! ولا يمنع من تدوين بعض النقاط إذا خيف نسيانها. وإذا اكتملت الصورة تماماً، يحين وقت الكتابة، وسوف تزورك أفكاراً جديدة لا مانع من إضافتها إذا كانت تخدم الموضوع، وتعطيه قوةً وجمالاً. هذا في النثر وحسب، أما في الشعر فالوضع يختلف. غنيٌ عن الذكر، أن الجلوس أمام الورقة دون أي إعداد ذهني مُسبّق، لا ينتج إلا أدباً مُغتصَباً ضعيفاً غير جدير بالقراءة !
* إلحاقاً للنقطة السابقة، فإن فكرة أي عمل أدبي تلد في عقل الكاتب بسرعة خارقة، وتشتعل كإضاءة البرق. قد تكون نابعة من تجاربه الذاتية، أو من تجارب الغير، أو من الخيال، وإذا لامست شغاف قلبه وعميق أحاسيسه، فيجب عدم إهمالها، مهما كانت، حتى لو يعود إليها في المستقبل.
* حضور المجالس الثقافية والأمسيات الشعرية لا تصنع أديباً لا يمتلك موهبةً فطرية، ولكنها ترضي ذائقة الملتقي وتزيد ثقافته، وتكوّن العلاقات مع أهل العلم والأدب. أنا في حياتي، رغم ولعي بالشعر، لا أحضر سوى أمسيات الأمير الشاعر " بدر بن عبدالمحسن "، وفيما مضى أمسيات الدكتور " غازي القصيبي "، رحمه الله.
* كل ما ذكرتُه أعلاه، هي صقل لموهبة الكتابة، ولا يصقلها شيءٌ كما القراءة تبعاً لذوق الأديب. فمن تراكمات قراءاته المستمرة، مع موهبته الفطرية، سوف يتشكّل في عقله الباطن أسلوبه الخاص الذي سيكتب به دون تصنّع، مع قوة ملاحظته وشدة حساسيته لالتقاط ما في نفسه، أو ما يحدث حوله، لتصوير ما يود الكتابة عنه شعراً أو نثراً. وفي هذا الصدد أنصحك بقراءة كتاب " فن التحرير العربي؛ ضوابطه وأنماطه " لمؤلفه الدكتور " محمد بن صالح الشنطي ".
* إهمال الموهبة وعدم الاعتناء بها، يؤدي إلى شيءٍ من الإرهاق النفسي والتشتت الذهني؛ لأنها تعاني من ضيق في التنفس في أعماق صاحبها، وهي تريد أن تخرج لترى الشمس وتشم الهواء. وبعض المواهب الأدبية العظيمة تغار على صاحبها، ولا تترك له سبيلاً آخر، وتستمر معه إلى مماته، وهو كذلك لا يستطيع مفارقتها أو النظر إلى غيرها، كما هي موهبة البحتري، ونجيب محفوظ، وأوسكار وايلد، وتشارلز ديكنز.