أنا أعتقد أن أي إنسان يعرف مواضع الفتن ورغبات الرجال لا يمكنه إطلاقاً أن يبيح كشف الوجه مع وجوب ستر القدمين ، وينسب ذلك إلى شريعة هي أكمل الشرائع وأحكمها .
ولهذا رأيت لبعض المتأخرين القول بأن علماء المسلمين اتفقوا على وجوب ستر الوجه لعظم الفتنة كما ذكره صاحب نيل الأوطار عن ابن أرسلان قال : لأن الناس الآن عندهم ضعف إيمان والنساء عند كثير منهن عدم العفاف ، فكان الواجب أن يستر هذا الوجه حتى لو قلنا بإباحته ، فإن حال المسلمين اليوم تقتضي القول بوجوب ستره ، لأن المباح إذا كان وسيلة إلى محرم صار محرماً تحريم الوسائل .
وإني لأعجب أيضاً من دعاة السفور بأقلامهم وما يدعون إليه اليوم وكأنه أمر واجب تركه الناس ! بل قد نقول إنه لو كان أمراً واجباً تركه الناس ما صارت هذه الأقلام تحرر هذه الكلمات وتدعو إليه .
فإذا كان هذا على القول بأنه جائز إنما هو من باب المباح ، فكيف نسوغ لأنفسنا أن ندعو ونحن نرى عواقبه الوخيمة فيمن قالوا بهذا القول ؟
والإنسان يجب عليه أن يتقي الله قبل أن يتكلم بما يقتضيه النظر ، وهذه من المسائل التي تفوت كثيراً من طلبة العلم ، يكون عند الإنسان علم نظري ، ويحكم بما يقتضيه هذا العلم النظري دون أن يرى إلى أحوال الناس ونتائج القوم .
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أحياناً يمنع من شيء أباحه الشارع جلباً للمصلحة ، كان الطلاق في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي عهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة ، أي أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً بكلمة واحدة جعلوا ذلك واحداً ، أو بكلمات متعاقبة على مااختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الراجح ، فإن هذا الطلاق يعتبر واحداً ، لكن لما كثر هذا في الناس قال أمير المؤمنين عمر : إن الناس قد تعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ، فلو أمضيناه عليهم ، فأمضاه عليهم ، ومنعهم من مراجعة الزوجات ، لأنهم تعجلوا هذا الأمر وتعجله حرام .
أقول : حتى لو قلنا بإباحة كشف الوجه ، فإن الأمانة العلمية والرعاية المبنية على الأمانة تقتضي ألا نقول بجوازه في هذا العصر الذي كثرت فيه الفتن ، وأن نمنعه من باب تحريم الوسائل ، مع أن الذي يتبين من الأدلة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن كشف الوجه محرم تحريم المقاصد لا تحريم الوسائل ، وأن تحريم كشفه أولى من تحريم كشف القدم أو الساق أو نحو ذلك .