منتدى عالم الأسرة والمجتمع - عرض مشاركة واحدة - صحيح السيرة النبوية
عرض مشاركة واحدة
قديم 13-12-2018, 11:22 AM
  #29
صاحب فكرة
قلم مبدع [ وسام القلم الذهبي 2016]
 الصورة الرمزية صاحب فكرة
تاريخ التسجيل: Nov 2015
المشاركات: 1,108
صاحب فكرة غير متصل  
رد: صحيح السيرة النبوية

المبحث العاشر: الوثيقة التي كتبها النبي في المدينة
لقد نظم النبي - صلى الله عليه وسلم - العلاقات بين سكان المدينة، وكتب في ذلك كتابًا أوردته المصادر التاريخية، واستهدف هذا الكتاب أو الصحيفة توضيح التزامات جميع الأطراف داخل المدينة، وتحديد الحقوق والواجبات، وقد سميت في المصادر القديمة بالكتاب أو الصحيفة، وأطلقت عليها الأبحاث الحديثة لفظ الدستور والوثيقة.
أ - طرق ورود الوثيقة "الصحيفة":
ونظرًا لأهمية الوثيقة التشريعية إلى جانب أهميتها التاريخية، فلا بد من تحكيم مقاييس أهل الحديث فيها لبيان درجة قوتها أو ضعفها، وما ينبغي أن يتساهل فيها كما يفعل مع الروايات والأخبار التاريخية الأخرى.
أن أقدم من أورد نص الوثيقة كاملًا هو محمَّد بن إسحاق لكنه أوردها دون إسناد، ونقلها عنه ابن كثير وابن سيد الناس، وقد ذكر البيهقي إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون البنود التي تتعلق باليهود، لذلك لا يمكن الجزم بأنه أخذها من نفس الطريق أيضًا.
وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الكتاب (الوثيقة)، فأسنده بهذا الإسناد، وحدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد، حدثنا عيسى بن يوسف، حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني، عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب كتابًا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه -أي بنحو الكتاب الذي أورده ابن إسحاق، ولكن يبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة إذ لا وجود لها فيما وصل إلينا منه.
كذلك وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير، وعبد الله بن صالح، قالا: حدثنا الليث ابن سعد، قال: حدثنا عقيل بن خالد، عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب هذا الكتاب ..) وسرده.
كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهريّ أيضًا.
هذه هي الطرق التي وردت منها الوثيقة بنصها الكامل، والتطابق الكبير بين سائر الروايات سوى بعض التقديم والتأخير في العبارات، أو اختلاف بعض المفردات، أو زيادة بنود قليلة، ولا يؤثر هذا الاختلاف على مضمونها العام.
ب - مدى صحة الوثيقة:
اعتمد عدد من الباحثين المعاصرين على الوثيقة فبنوا عليها دراساتهم، في حين ذهب الأستاذ يوسف العش إلى أن الوثيقة موضوعة فهو يقول: إنها لم ترد في كتب الفقه والحديث الصحيح رغم أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحاق بدون إسناد، ونقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله بن عمرو والمزني روى هذا الكتاب عن أبيه عن جده، وقد ذكر ابن حبان البستي: أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب، ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب" ويرى العش أن ابن إسحاق اعتمد على رواية كثير لكنه تعمد حذف الإسناد.
لقد ذهب الأستاذ العش إلى ذلك لأنه تصور أن الوثيقة لم يروها غير ابن إسحاق، ولم يعبر على إسناد لها سوى ما ذكر ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة لها من طريق كثير المزني.
لكن أبا عبيد القاسم بن سلام أورد الوثيقة من طريق الزهريّ وهي طريق مستقلة لا صلة لها بكثير المزني. ونظرًا لكون ابن إسحاق من أبرز تلاميذ الزهريّ، فإن ثمة احتمال لأن يكون أورد الوثيقة من طريقه، لولا أن البيهقي ذكر إسناد ابن إسحاق للوثيقة التي تحدد العلاقات بين المهاجرين والأنصار دون أن تتناول البنود المتعلقة بيهود، ولا يمكن الجزم بأن ابن إسحاق أخذ البنود المتعلقة بيهود من هذه الطريق أو من طريق أخرى.
قال البيهقي: "أخبرني أبو عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمَّد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عثمان بن محمَّد بن المغيرة بن الأخنس بن شريق قال: أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة".
والحديث بهذا الإسناد ضعيف؛ لأن عثمان تحملها وجادة، وفي الإسناد رجال فيهم ضعف مثل عثمان، فهو صدوق له أوهام، ويونس بن بكير يخطئ، والعطار ضعيف وتحمله للسيرة صحيح، فالرواية على ضعفها صالحة للاعتبار وقد توبعت وأن هذا النص يهدم الأساس الذي بنى عليه الأستاذ العش رأيه. كما أنه لا يمكن الحكم على الوثيقة بأنها موضوعة لأن كتب الحديث لم ترو نصًّا كاملًا!! فقد أوردت كتب الحديث مقتطفات كثيرة منها تغطي عددًا كبيرًا من بنودها.
وبذلك يتبين أن الحكم بوضع الوثيقة مجازفة، ولكن الوثيقة لا ترقى بمجموعها إلى مرتبة الأحاديث الصحيحة. فابن إسحاق في سيرته رواها دون إسناد مما يجعل روايته ضعيفه، وأوردها البيهقي من طريق ابن إسحاق أيضًا بإسناد فيه سعد بن المنذر وهو مقبول فقط، وابن أبي خيثمة أوردها من طريق كثير بن عبد الله المزني وهو يروي الموضوعات وأبو عبيد القاسم بن سلام رواها بإسناد منقطع يقف عند الزهريّ، وهو من صغار التابعين فلا يحتج بمراسيله".
ولكن نصوصًا من الوثيقة وردت في كتب الأحاديث بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص هي من الحديث الصحيح وقد احتج بها
الفقهاء وبنوا عليها أحكامهم. كما أن بعضها ورد في مسند الإِمام أحمد، وسنن أبي داود، وابن ماجه والترمذي، وهذه النصوص جاءت من طرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة.
وإذا كانت الوثيقة بمجموعها لا تصلح للاحتجاج بها في الأحكام الشرعية، سوى ما ورد منها من كتب الحديث الصحيح، فإنها تصلح أساسًا للدراسة التاريخية التي لا تتطلب درجة الصحة التي تقتضيها الأحكام الشرعية، خاصة وأن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة، كما وأن الزهريّ علم كبير من الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية، ثم إن أهم كتب السيرة والمصادر التاريخية ذكرت موادعة النبي - صلى الله عليه وسلم - لليهود، وكتابته بينه وبينهم كتابًا، كما ذكرت كتابته كتابًا بين المهاجرين والأنصار.
وقد جاء عند ابن كثير في البداية والنهاية: 4/ 103 - 104 نقلًا عن موسى ابن عقبة: (وفيه أن بني قريظة مزقوا الصحيفة التي كان فيها العقد". والأثر موقوف عليه بدون إسناد، ولكن مجموع الآثار يتقوى بعضها ببعض وتصل إلى درجة الحسن لغيره.
كذلك فإن أسلوب الوثيقة ينم عن أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة بسيطة وغير معتدة التركيب، ويكثر فيها التكرار، وتستعمل كلمات وتعابير كانت مألوفة في عصر الرسول - عليه السلام -، ثم قل استعمالها فيما بعد حتى أصبحت مغلقة على غير المتعمقين في دراسة تلك الفترة، وليس في هذه الوثيقة نصوص تمدح، أو تقدح فردًا، أو جماعة، أو تخص بالإطراء، أو الذم، لذلك يمكن القول بأنها وثيقة أصلية وغير مزورة، ثم إن التشابه الكبير بين أسلوب الوثيقة، وأساليب كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الأخرى يعطيها توثيقًا آخر" (1).
.................................................. .................................................. ......
(1) المجتمع المدني في عهد النبوة للدكتور أكرم ضياء العمري من صفحة: 107 - 112 بتصرف قليل.
__________________
أليس في صحبة المتقين طمأنينة ؟ !! لماذا نغالط أنفسنا ؟!!


رد مع اقتباس