منتدى عالم الأسرة والمجتمع - عرض مشاركة واحدة - من سنن الله تعالى في خلقه (5)
عرض مشاركة واحدة
قديم 07-12-2014, 11:09 AM
  #1
ابن عمر محمد
عضو مميز
تاريخ التسجيل: Nov 2011
المشاركات: 335
ابن عمر محمد غير متصل  
من سنن الله تعالى في خلقه (5)

من سنن الله تعالى في خلقه (5)
سنة الزيادة
إبراهيم بن محمد الحقيل

﴿الحَمْدُ لِلَّـهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ المَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فاطر: 1] نَحْمَدُهُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَا أَعْطَانَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ هَدَى الْخَلْقَ إِلَيْهِ، وَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ؛ فَغَرَسَ فِي فِطَرِهِمُ الْإِيمَانَ بِهِ، وَمَلَأَ الْوُجُودَ بِبَرَاهِينِ رُبُوبِيَّتِهِ ﴿فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا﴾ [فاطر: 39]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَتْقَى الْخَلْقِ لِلَّـهِ تَعَالَى، وَأَكْثَرُهُمْ حُبًّا لَهُ، وَتَعَلُّقًا بِهِ، وَرَغْبَةً إِلَيْهِ، وَأَشَدُّهُمْ خَشْيَةً مِنْهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَلَا تَغْتَرُّوا بِأَعْرَاضِ الدُّنْيَا الْفَانِيَةِ، وَتَقَرَّبُوا إِلَيْهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ حَتَّى يُقَالَ لَكُمْ: ﴿كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الخَالِيَةِ﴾ [الحاقَّة: 24].


أَيُّهَا النَّاسُ: لِلَّـهِ تَعَالَى سُنَنٌ فِي عِبَادِهِ، بَثَّهَا فِي كِتَابِهِ؛ لِيَعْلَمَ قُرَّاءُ الْقُرْآنِ أَنَّ سُنَنَهُ سُبْحَانَهُ لَا تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ، وَلَا تَتَخَلَّفُ بِاخْتِلَافِ المَكَانِ، بَلْ هِيَ سُنَنٌ مُضْطَرِدَةٌ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ وَحَالٍ، فَلَا يَغْتَرَّ قَوِيٌّ بِقُوَّتِهِ، وَلَا يَبْطَرْ غَنِيٌّ بِمَالِهِ، وَلَا تَظُنَّ أُمَّةٌ أَنَّهَا لَا تُقْهَرُ؛ فَالْقَوِيُّ يَضْعُفُ، وَالمَوَارِدُ تَنْقُصُ، وَدَوَامُ الْحَالِ مِنَ المُحَالِ ﴿فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر: 43].



وَمِنْ سُنَنِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي عِبَادِهِ: زِيَادَتُهُمْ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَطَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ، وَفَقْرٍ وَغِنًى، وَاضْطِرَابٍ وَاسْتِقْرَارٍ، وَعَافِيَةٍ وَابْتِلَاءٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ.


وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ دَلَّتْ عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ وَأَحَادِيثُ السُّنَّةِ سَوَاءً فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيَا أَوْ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدِّينِ:


فَالمُؤْمِنُ المُحَقِّقُ لِإِيمَانِهِ، السَّاعِي لِزِيَادَتِهِ وَنَمَائِهِ، الصَّادِقُ فِي انْتِمَائِهِ، يَزِيدُهُ اللهُ تَعَالَى إِيمَانًا إِلَى إِيمَانِهِ، وَيَقِينًا إِلَى يَقِينِهِ، وَهُدًى إِلَى هُدَاهُ، وَتَقْوًى إِلَى تَقْوَاهُ ﴿وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ [مريم: 76]، ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [محمد: 17] فَكُلُّ مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا فِي الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى مِنْهُ، وَسَهَّلَهُ عَلَيْهِ، وَيَسَّرَهُ لَهُ، وَوَهَبَ لَهُ أُمُورًا أُخَرَ، لَا تَدْخُلُ تَحْتَ كَسْبِهِ.


وَلمَّا صَدَقَ فِتْيَةُ الْكَهْفِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَهَاجَرُوا فِرَارًا بِدِينِهِمْ؛ زَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيمَانًا ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: 13].


وَالتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى شُعْبَةٌ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، تَدُلُّ عَلَى كَمَالِ التَّسْلِيمِ وَالتَّفْوِيضِ لِلَّـهِ تَعَالَى، تَخَلَّقَ بِهِ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ لمَّا اجْتَمَعَ المُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ؛ فَزَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِتَوَكُّلِهِمْ إِيمَانًا وَيَقِينًا ﴿الَّذِينَ قَالَ لهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ [آل عمران: 173].


وَفِي الْأَحْزَابِ تَجَمَّعَ الْكُفَّارُ عَلَى أَهْلِ الْإِيمَانِ لِاسْتِئْصَالِهمْ، فَأَعْلَنَ أَهْلُ الْإِيمَانِ تَصْدِيقَهُمْ بِوَعْدِ اللَّـهِ تَعَالَى وَوَعْدِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ الْحَرِجَةِ؛ إِيمَانًا مِنْهُمْ وَيَقِينًا بِاللَّـهِ تَعَالَى؛ وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ، فَزَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيمَانًا وَيَقِينًا وَتَوَكُّلًا ﴿وَلمَّا رَأَى المُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب: 22].


وَفِي الْحُدَيْبِيَةِ كَرِهَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بُنُودَ الصُّلْحِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: «فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا؟!» وَلَكِنَّهُمْ مَا لَبِثُوا أَنْ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّـهِ تَعَالَى، فَقَهَرُوا مَا فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ الْغَضَبِ وَالْحَمِيَّةِ؛ طَاعَةً لِلَّـهِ وَرَسُولِهِ، فَزَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى بِهَذَا الِانْقِيَادِ وَالِاسْتِسْلَامِ إِيمَانًا وَيَقِينًا ﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ﴾ [الفتح: 4].
فَفِي كُلِّ هَذِهِ النَّمَاذِجِ الْإِيمَانِيَّةِ مَا جَاءَتِ الزِّيَادَةُ مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى إِلَّا بَعْدَ أَنْ أَثْبَتَتْ هَذِهِ الطَّوَائِفُ المُؤْمِنَةُ إِيمَانَهَا، وَدَلَّلَتْ عَلَى صِدْقِهِ، فِي سَاعَاتٍ حَرِجَةٍ يَتَلَاشَى فِيهَا التَّصَنُّعُ وَالْكَذِبُ وَالرِّيَاءُ، فَجَزَاهُمْ رَبُّهُمْ سُبْحَانَهُ مَا جَزَاهُمْ مِنْ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ بِهِ تَعَالَى، وَتَصْدِيقِ وَعْدِهِ سُبْحَانَهُ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِهِ عَزَّ وَجَلَّ.

وَحِينَ يَرَى المُؤْمِنُ تَقَهْقُرَ المُسْلِمِينَ، وَاضْطِرَابَ أَحْوَالِهمْ، وَافْتِرَاقَ كَلِمَتِهِمْ، وَعُلُوَّ أَعْدَائِهِمْ عَلَيْهِمْ؛ فَيَجِبُ أَنْ لَا يُضَعْضِعَ هَذَا الْحَالُ الْبَائِسُ إِيمَانَهُ وَيَقِينَهُ، فَيَتَخَلَّى عَنْ شَيْءٍ مِنْ دِينِهِ، أَوْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ غَيْرَهُ، بَلِ الْوَاجِبُ أَنْ يَزِيدَهُ ذَلِكَ تَمَسُّكًا بِهِ، وَعَمَلًا لَهُ، وَدَعْوَةً إِلَيْهِ، وَتَفَانِيًا فِيهِ، وَيَقِينًا بِوَعْدِ اللَّـهِ تَعَالَى لِلْمُؤْمِنِينَ، كَمَا فَعَلَ الصَّحَابَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَالْخَنْدَقِ وَالْحُدَيْبِيَةِ، وَهِيَ أَعْسَرُ المَوَاقِفِ عَلَيْهِمْ. فَإِنَّهُ إِنْ ظَهَرَ ثَبَاتُ المُؤْمِنِينَ وَيَقِينُهُمْ، وَتَصْدِيقُهُمْ بِوَعْدِ اللَّـهِ تَعَالَى، وَاسْتِسْلَامُهُمْ لِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ؛ زَادَهُمُ اللهُ تَعَالَى إِيمَانًا وَثَبَاتًا وَيَقِينًا، وَجَعَلَ عَاقِبَةَ ذَلِكَ نَصْرًا وَفَتْحًا مُبِينًا، وَتِلْكَ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ لَا تَتَخَلَّفُ أَبَدًا.

وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ السُّنَّةِ الرَّبَّانِيَّةِ: أَنَّ مَنْ عَزَمَ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ، وَاجْتَهَدَ فِي تَحْقِيقِهِ أَعَانَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَيَسَّرَهُ لَهُ؛ كَمَا قَدْ حَجَّ أُنَاسٌ مَا ظَنُّوا أَنَّهُمْ يَحُجُّونَ عَامَهُمْ ذَاكَ، وَبُرْهَانُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآَخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ﴾ [الشُّورى: 20] أَيْ: نُقَوِّيهِ وَنُعِينُهُ عَلَى مَا هُوَ بِصَدَدِهِ، وَنُكْثِرُ نَمَاءَهُ، وَنَجْزِيهِ بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى مَا يَشَاءُ اللهُ تَعَالَى، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى ﴿وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا﴾ [الشُّورى: 23]؛ وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْرَحَ اللهُ تَعَالَى صَدْرَهُ، وَيُيَسِّرَ أَمْرَهُ، وَتَكُونَ سَبَبًا لِلتَّوْفِيقِ لِعَمَلٍ آخَرَ، وَيَزْدَادَ بِهَا عَمَلُ المُؤْمِنِ، وَيَرْتَفِعَ عِنْدَ اللَّـهِ تَعَالَى وَعِنْدَ خَلْقِهِ، وَيَحْصُلَ لَهُ الثَّوَابُ الْعَاجِلُ وَالْآجِلُ.


بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ إِثْبَاتِ صِدْقِ الْإِيمَانِ بِالمُجَاهَدَةِ، قَالَ ابْنُ المُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «جَاهَدْتُ نَفْسِي أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى اسْتَقَامَتْ»، وَقَالَ أَحَدُ السَّلَفِ: «جَاهَدْتُ نَفْسِي عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ عِشْرِينَ سَنَةً وَتَلَذَّذْتُ بِهِ عِشْرِينَ سَنَةً أُخْرَى». وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَكَرِيَّا: «عَالَجْتُ لِسَانِي عِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لِي».


فَالْقَوْمُ عَالَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَى الطَّاعَاتِ، وَجَاهَدُوهَا فِي مَرْضَاةِ اللَّـهِ تَعَالَى، ثُمَّ حَصَّلُوا جَزَاءَ ذَلِكَ أُنْسًا بِاللَّـهِ تَعَالَى، وَفَرَحًا بِطَاعَتِهِ، وَاسْتِغْنَاءً بِهِ عَنْ غَيْرِهِ.


وَفِي المُقَابِلِ فَإِنَّ مِنْ سُنَّةِ اللَّـهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُمْلِي لِلْكُفَّارِ وَالمُنَافِقِينَ، وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ، وَظُلْمًا إِلَى ظُلْمِهِمْ؛ عُقُوبَةً مِنْهُ سُبْحَانَهُ عَلَى مَا اقْتَرَفُوا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَالظُّلْمِ وَالطُّغْيَانِ، فَيَزِيدُوا أَسْبَابَ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لِتَكُونَ نِهَايَتُهُمْ أَلِيمَةً، وَعَاقِبَتُهُمْ وَخِيمَةً ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ﴾ [آل عمران: 178] فَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى مَا مَكَّنَ لَهُمْ، وَلَا أَعْطَاهُمْ مَا أَعْطَاهُمْ إِلَّا وَهُوَ رَاضٍ عَنْهُمْ وَعَنْ أَفْعَالِهمْ، حَتَّى يَصِلُوا إِلَى دَرَكِ الْعَمَهِ، وَهُوَ حَالَةٌ مِنَ الضَّيَاعِ وَالتَّرَدُّدِ وَالتَّحَيُّرِ، تَذْهَبُ فِيهَا الْبَصِيرَةُ حَتَّى كَأَنَّمَا يَعْمَى الْبَصَرَ، فَلَا يُبْصِرُ صَاحِبُهَا الْوَاضِحَاتِ، وَلَا يَتَبَيَّنُ الْبَيِّنَاتِ، وَعَمَى الْبَصِيرَةِ أَشَدُّ وَأَنْكَى مِنْ عَمَى الْبَصَرِ. ﴿مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الأعراف: 186] وَيُزَيَّنُ لِلْمُصَابِ بِالْعَمَهِ سُوءُ عَمَلِهِ فَيَظُنُّهُ حَسَنًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ﴾ [النمل: 4]، وَيَا لَهَا مِنْ حَالَةِ ضَيَاعٍ وَتَحَيُّرٍ وَتَرَدُّدٍ تُوبِقُ صَاحِبَهَا وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ ذَكَاءً حَادًّا، وَيَحْمِلُ مُؤَهِّلًا عَالِيًا، وَيَتَسَنَّمُ مَنْصِبًا كَبِيرًا.

وَالمُنَافِقُونَ مَرِضَتْ قُلُوبُهُمْ بِالنِّفَاقِ، فَعُوقِبُوا بِزِيَادَتِهِ فِيهَا، وَتَمَكُّنِهِ مِنْهَا، حَتَّى فَتَكَ بِهَا، وَأَوْرَثَهَا ذُلًّا فِي الدُّنْيَا بِالتَّخَفِّي وَالِاسْتِتَارِ، وَمِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا وَانْحِطَاطًا مَنْ يَسِيرُ بِوَجْهَيْنِ، وَيَعِيشُ بِشَخْصِيَّتَيْنِ. وَأَمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ عَلَى المُنَافِقِ فَأَشَدُّ وَأَنْكَى ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ﴾ [البقرة: 10] فَعُوقِبُوا عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ النِّفَاقِ بِزِيَادَتِهِ وَتَمَكُّنِهِ، وَتِلْكَ سُنَّةُ اللَّـهِ تَعَالَى فِيهِمْ؛ حَتَّى إِنَّ مَا يَتْلُونَهُ أَوْ يَسْمَعُونَهُ مِنَ الْقُرْآنِ لَا يَنْفَعُهُمْ، بَلْ يَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَشَكًّا وَارْتِيَابًا وَإِعْرَاضًا، بَيْنَمَا يَزِيدُ المُؤْمِنِينَ إِيمَانًا وَإِقْبَالًا وَاسْتِبْشَارًا ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124-125].


فَالْقُرْآنُ هُوَ الْقُرْآنُ، وَالْآيَاتُ هِيَ الْآيَاتُ، فَتَتَّسِعُ بِهَا قُلُوبٌ وَتَضِيقُ بِهَا قُلُوبٌ أُخْرَى، تَتَّسِعُ بِهَا قُلُوبُ المُؤْمِنِينَ، وَتَطْرَبُ لَهَا، وَتَنْتَفِعُ بِهَا؛ ثَوَابًا مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى تَصْدِيقِهِمْ وَإِذْعَانِهِمْ، وَتَضِيقُ بِهَا قُلُوبُ المُنَافِقِينَ؛ عُقُوبَةً مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَاسْتِكْبَارِهِمْ.

وَالشَّرِيعَةُ هِيَ الشَّرِيعَةُ، فَيَفْرَحُ بِهَا أَهْلُ الْإِيمَانِ فَيُعَانُونَ عَلَى أَوَامِرِهَا وَنَوَاهِيهَا، وَيَسْتَثْقِلُهَا مَرْضَى الْقُلُوبِ فَيُعَاقَبُونَ بِتَرْكِهَا، وَرُبَّمَا عُوقِبُوا بِالصَّدِّ عَنْهَا؛ لِيُضَعَّفَ لَهُمُ الْعَذَابُ ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّـهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ﴾ [النحل: 88].

وَيُزَادُ الْجَزَاءُ لِأَهْلِ الطَّاعَاتِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ جَزَاءِ الْآخِرَةِ؛ فَجَزَاءٌ مَعْنَوِيٌّ: مِنْ سَعَادَةِ الْقَلْبِ، وَرَاحَةِ النَّفْسِ، وَالتَّوْفِيقِ لِطَاعَاتٍ أُخْرَى، وَجَزَاءٌ حِسِّيٌّ بِسَعَةِ الرِّزْقِ، وَطُولِ الْعُمْرِ، وَاسْتِقَامَةِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَيُزَادُ الْعِقَابُ لِأَهْلِ الْعِصْيَانِ فِي الدُّنْيَا غَيْرُ عِقَابِ الْآخِرَةِ، فَعُقُوبَاتٌ مَعْنَوِيَّةٌ مِنْ شَقَاءِ الْقَلْبِ، وَضِيقِ الصَّدْرِ، وَالِاسْتِهَانَةِ بِفِعْلِ المَعَاصِي، وَتَرْكِ الطَّاعَاتِ، وَالمُجَاهَرَةِ بِذَلِكَ. وَعُقُوبَاتٌ حِسِّيَّةٌ مِنْ شَقَاءِ الْجَسَدِ بِاللُّهَاثِ وَرَاءَ مُتَعِ الدُّنْيَا لِيَجِدَ السَّعَادَةَ فِيهَا فَلَا يَجِدُهَا، وَلَا يَرْتَوِي مِنْهَا، وَتُنْزَعُ بَرَكَةُ وَقْتِهِ وَمَالِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الشُّؤْمِ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ.

إِنَّهَا زِيَادَةُ نَعِيمِ المُؤْمِنِ بِالطَّاعَاتِ، وَزِيَادَةُ شَقَاءِ الْفَاجِرِ بِالمُحَرَّمَاتِ ﴿وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾ [إبراهيم: 7].

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى الْبِرِّ وَالطَّاعَةِ، وَأَنْ يَنْظِمَنَا فِي سِلْكِ أَهْلِ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...



الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ


الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.


أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهَ ﴿وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنْ فَوَائِدِ مَعْرِفَةِ سُنَّةِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي الزِّيَادَةِ: أَنْ يُقْبِلَ المُؤْمِنُ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيَرْتَقِيَ فِي سُلَّمِهَا؛ حَتَّى يَكُونَ حَاضِرُهُ خَيْرًا مِنْ مَاضِيهِ، وَمُسْتَقْبَلُهُ خَيْرًا مِنْ حَاضِرِهِ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ كُلَّمَا زَادَ زَادَهُ اللهُ تَعَالَى، وَيَحْذَرَ الِاسْتِهَانَةَ بِفِعْلِ المَعَاصِي وَتَرْكِ الطَّاعَاتِ، وَيُبَادِرُ بِالتَّوْبَةِ بَعْدَ الذَّنْبِ؛ خَوْفًا أَنْ تُدْرِكَهُ سُنَّةُ الزِّيَادَةِ فِي مَعْصِيَتِهِ، فَيَنْتَقِلُ مِنْ مَعْصِيَةٍ إِلَى أَعْظَمَ مِنْهَا، حَتَّى يَنْحَطَّ إِلَى دَرْكِ الْكُفْرِ أَوِ النِّفَاقِ.

إِنَّنَا حِينَ نَرَى بَعْضَ الصَّالِحينَ الَّذِين اسْتَغْرَقُوا أَوْقَاتَهُمْ، وَقَضَوْا أَعْمَارَهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّـهِ تَعَالَى نَظُنُّ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ رَهَقًا وَشِدَّةً فِي جِهَادِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَهُمْ قَدْ جَاوَزُوا هَذِهِ المَرْحَلَةَ، فَمَعَ طُولِ مُجَاهَدَتِهِمْ جَزَاهُمُ اللهُ تَعَالَى أُنْسًا بِالطَّاعَةِ، فَلَا يَجِدُونَ لَذَّتَهُمْ وَرَاحَتَهُمْ إِلَّا فِيهَا، وَهِيَ شَاقَّةٌ عَلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الصَّلَاةِ، وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: «لَوْ قِيْلَ لِحَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ: إِنَّكَ تَمُوْتُ غَدًا، مَا قَدِرَ أَنَّ يَزِيْدَ فِي العَمَلِ شَيْئًا».

وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ مَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيمِ وَالسُّرُورِ لَجَالَدُونَا بِالسُّيُوفِ».

إِنَّكَ لَا تُسْرِعُ إِلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِطَاعَةٍ إِلَّا كَانَ سُبْحَانَهُ أَسْرَعَ إِلَيْكَ بِالثَّوَابِ، وَلَا تَزِيدُ عَمَلًا صَالِحًا إِلَّا كَانَتْ زِيَادَةُ اللَّـهِ تَعَالَى لَكَ أَعْظَمَ مِمَّا كُنْتَ تَظُنُّ، وَكُلَّمَا زَادَ إِقْبَالُكَ عَلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ كَانَ إِقْبَالُهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْكَ أَضْعَافَ زِيَادَتِكَ، وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ: «إِذَا تَقَرَّبَ العَبْدُ إِلَيَّ شِبْرًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِذَا تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَإِذَا أَتَانِي مَشْيًا أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.

وَلمَّا بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضْلَ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ قَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: «اللهُ أَكْثَرُ».

إِنَّ مَنْ فَقِهَ السُّنَّةَ الرَّبَّانِيَّةَ فِي الزِّيَادَةِ زَادَتْ طَاعَتُهُ وَلَمْ تَنْقُصْ، وَزَادَ قُرْبًا مِنَ اللَّـهِ تَعَالَى وَلَمْ يَبْتَعِدْ، وَزَادَ تَعَلُّقًا بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَرَكَ التَّعَلُّقَ بِسَوَاهُ؛ لِعِلْمِهِ أَنَّ كُلَّ زِيَادَةٍ يُحْدِثُهَا مَعَ اللَّـهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَزِيدُهُ عَلَيْهَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.

وَأَمَّا أَهْلُ الْبَطَالَةِ وَالمَعْصِيَةِ الَّذِينَ تُقَرِّبُهُمْ أَعْمَارُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ فَلَا يَزْدَادُونَ إِلَّا عُتُوًّا وَنُفُورًا وَاسْتِكْبَارًا، فَأُولَئِكَ قَوْمٌ ﴿كَرِهَ اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ﴾ [التوبة: 46] ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: 55-56] نَعُوذُ بِاللَّـهِ تَعَالَى مِنْ حَالِهمْ وَمَآلِهمْ.


وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...



تحميل الخطبة


رد مع اقتباس