*** البرتقالة ***
نضجت حبة برتقالة داخل بستان، حبة ملساء، كبيرة الحجم، برتقالية اللون وبها بثور سوداء. بعد مختلف المراحل وطول انتظار، بعد غرس دقيق وسقي متواصل، تطاول الساق وتفرعت الغصون ثم تزينت بزهيرات واكتست باخضرار أوراق تمدّ بظل طويل لمن أرهقه سفر أو أتعبته الحرارة. وفي أعلى هذه الشجرة، في مكان محجوب عن العين، أصبحت تلك البرتقالة قابلة للأكل، تنتظر عينا حذّاقة أو فما ذوّاقة. تنتظر دورها وكأنها بحاجة لفنان يقيس روعة الخلق فيها، يُخرجِها إلى السوق ويعرضعا للبيع بالمزاد، فتمر الناس عليها ولا تستطيع التفكير حتى بسعر يلائمها من كثرة بهائها. لكن السوق ليس متحفا ولا هو يلائم هذه البرتقالة أن تكون تمثالا أثريا أبد الدهر، فلا بد لمن يأكلها مهما كان الثمن، هنالك فقط تكمن فائدتها ويُوفّي المرء حقها بأن يعرف حلاوة طعمها وقيمة محتواها المعنوية والجسمية. يمكن جعلها عصيرا طبيعيا لتبتل عروق تريد الحياة أو إضافتها إلى مكونات خليط لتحضير كعكة بنكهة البرتقال، ويكفي في كل الأحوال تناولها القطعة تلو الأخرى لمن يريد الاستمتاع مطولا ولديه قواطع وأضراس سليمة. وربما تنتقل إلى مخبر تحليل لمزيد من الاكتشافات.
فقط لو تصل إلى السوق، فمتى يأتي الفلاح ليقطفها؟ أن يتم توزيعها مع الصدقات، أفضل لها من المكوث في الشجرة، إذ لم يعد لها مكان هناك، لقد أخذت رعاية كافية وأصبح مكوثها ثقل على الغصن.
لكن ماذا بوسعها أن تفعل؟ هل تقفز وتنادي "هل من آكل؟" لا جدوى. ستنتظر وتنتظر.
شيئا فشيئا تجفّ بسبب الحرارة، تظهر عليها خضرة العفن وتتثاقل. ويتلاشى الغصن الحامل الذي ليس بوسعه شيئا، فلقد حاول مسكها جاهدا وظل وفيا إلى أن ضحى بنفسه وتقطّع، لتسقط البرتقالة الفاسدة.
منظر كئيب ورائحة فظيعة. لو سقطت من أعلى عمارة على الرصيف لتناثرت هنا وهناك وانزلقت الأرجل عليها، ولو أصابت رأس أحدهم لاشمأزت القلوب من ذلك. على الأقل، هي في مكان بعيد عن الأعين، وحدها الشجرة ستتحمل جوارها إلى أن تتحلل رويدا فرويدا. وإلى ذلك الحين، لو تحركت الشجرة، لغادرت مكانها حاملة ما تبقّى فيها صالحا لتجد لنفسها مستقرا آخر حيث الهواء النقي، وبقليل من الحياء ستغادر ببطء، أما إذا كانت تتمتع بروح الأمومة فستبحث بدل ذلك عن ملجأ منفرد لهذه البرتقالة، تستودع فيه الدنيا آمنة من نظرات الشفقة والتقزز. وإذا جاء الفلاح متفقدا شجرته العزيزة فأكيد سيرمي بالبرتقالة حيث القذارة مثلها، وحدها الفطريات ستجد حظا واسعا، أما الغير فلن يجد طعما للسعادة إن رآها أو أنزلها جوفه. ولا هي ستطمع إن كانت تفكر هذه البرتقالة، بأنها في هذه الحالة يمكن لإنسان أن يجد لها مذاقا طيبا. على الأكثر، سيتساءل عن السبب ويتحسر عليها، فمن كان يقول أن تلك البرتقالة الشهية التي ولا في الحلم مثلها، في يوم من الأيام ستختفي، وأية نهاية؟ دون فائدة تُذْكَر، فما هو السبب؟ هي؟ هي لَم تتكلم، لَم تتحدث عن نفسها في السابق، عن شقاء الطبيعة حتى أنتجتها، طبيعة فرحت بهذه الزينة فرحة انتهت حين أدركت مرور الوقت ولا أحد يبالي بها.
كلاّ، لن تخبر كيف انتقلت من قمة الرفاهية إلى ما تحت الصّفر، إلى العدم. ولا هي في لحظاتها الأخيرة، هذه النعمة الحزينة، دافعت عن نفسها، إنما تركت كل واحد يبحث إن وجد وقتا لذلك، على الأقل ليرسم تخطيطا يتفادى به الخسارة لاحقا.
منقول لامانة
18-02-2008, 02:23 PM
....
ضوابط المشاركة
العرض العادي
