ظاهرة القلق .. الأعراض والعلاج
ظاهرة القلق .. الأعراض والعلاج
لطف الله خوجه
نسمع أن في الغرب أعداداً هائلة من المصابين بالقلق والاكتئاب يضطرون لزيارة عيادات الصحة النفسية بصفة دورية ، وليس غريباً أن يكونوا كذلك ، لكن الغريب أن نسمع عن مثل ذلك بين المسلمين ؛ فأعداد المترددين على العيادات النفسية في ازدياد ، وقد سمعنا منذ فترة أن شاباً مات منتحراً ، فَلِم يحدث مثل هذا عند المسلمين ، وهذا القرآن والنور النبوي بين أيديهم ، والعلماء الصادقون لا يبخلون عليهم بنصيحة ؟ أظن أن السبب هو الإغراق في الماديات .
فالغربيون مبدؤهم وحياتهم وأهدافهم كلها مادية ، وليس لهم عناية بالجانب الروحي ، وهذا هو السبب في شقائهم ، والمسلم الذي يبالغ في العناية بجسده مع إهمال روحه يعتريه ما يعتري الكافر من ضيق واكتئاب وحاجة ملحة إلى زيارة العيادات النفسية بصفة دائمة .
إن الإنسان مخلوق من مادة جامدة أرضية محصورة في نطاق معين ، ومادة لطيفة روحية تسيح في العالم بلا حدود ، وكل من هاتين المادتين تحتاج إلى عناية خاصة ؛ فالعناية بإحداهما دون الأخرى تنقص إنسانيته ، وذلك ينعكس سلباً على راحته .
وأكثر الناس اليوم يغلِّبون جانب المادة الجامدة ( الجسد ) فيسري هذا الجمود إلى المادة اللطيفة ( الروح ) فتصبح كذلك جامدة محصورة في حدود الجسد ، فيفقدون إنسانيتهم ويصبحون قوالب حجرية لا تقبل التمدد ؛ وترفض التوسع والانشراح .
وأساس الراحة والطمأنينة الانشراح والسعة ، وتلك القوالب الحجرية الجامدة تمنع من ذلك فيحدث الضيق والقلق والاضطراب ، فهذه نتيجة العناية بالمادة الجامدة مع إهمال المادة اللطيفة .
لكن العناية بالروح والجسد كل بقدره يفسح المجال أمام هذه المادة اللطيفة أن تعانق العالم العلوي ، وأن تسري في مجال الكون الرحب الواسع ، تنظر فيه وتتأمل حقائقه ، وترجع بالعبر المفيدة ، والفوائد العجيبة ، دون مانع أو قيد يكون من الجسد ، بل ربما سرت لطيفة الروح إلى الجسد فيزول عنه الجمود ، وذلك مما يشرح الصدر وينفس الكربات ، ويزيل عن البدن أمراضه وعلله ، وهذا حال من أعطى كل شيء حقه ، فلم يهمل حاجات الروح مقابل حاجات الجسد ، قال الله تعالى : [ فَمَن يُرِدِ اللَّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاًّ كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ]( الأنعام : 125 ) .
إن الإنسان نصفه روح ونصفه جسد ، فمن صار غايته في جسده لم يعد إنساناً ، أرأيتم في يومٍ ما نصف إنسان ، ليس له إلا عين واحدة وأذن واحدة ، وشق فم ، وشق أنف ، وشق وجه وشعر ، ويد ورجل واحدة ؟ هل رأيتم صورة بشعة كهذه ؟ فهذا مثل من جمد ولم يلطف .
من نظر إلى جسده ولم يلتفت إلى روحه هو نصف إنسان في كل شيء ، لم يعرف من إنسانيته إلا الجمود والتحجر والقسوة والغلظة ، فأنَّى لمثل هذا أن ينعم أو يطمئن ؟ إنه يخالف إنسانيته وطبيعته وخلقته التي خلقه الله عليها ، ومن رام مخالفة الإنسانية أو كسر الطبيعة أو تغيير الخلقة الربانية انكسر وتشتت وضاع ، وأحاط به القلق والاكتئاب ، فيبحث عن المخرج فلا يجده إلا في الانتحار ، بعد يأسه من عيادات الطب النفسي أن يجد فيها الطمأنينة والانشراح .
إن الله جل شأنه عندما خلقنا في هذه الدنيا لم يخلقنا هملاً ، بل خلقنا لغاية ، وهذه الغاية باختصار أن نعبد الله وأن ندعو الناس إلى عبادته ، ومن لازِم ذلك عمارة الأرض بالقدر الذي يحقق تلك الغاية ، وهذه العبادة منسجمة غاية الانسجام مع إنسانيتنا ؛ فالعبادة تلبي حاجة الروح .
قال تعالى : [ قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ]( الأعلى : 14-15 ) ، والعبادة لا تحصل إلا بعمارة الأرض بالسعي في الرزق وإعداد القوة لإرهاب العدو ، وتلك تلبي حاجة الجسد .
قال تعالى : [ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ]( الملك : 15 ) ، وقال : [ وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ]( الأنفال : 60 ) ، وبذلك تكون الإنسانية متكاملة متوازنة فتستقر الحياة ، وتحلو اللحظات ، ويزول عنها أسباب القلق ، فأنَّى للقلق أن يغزو الإنسان إذا صار مدركاً لأهمية التوازن في الحياة بين حاجات الروح والجسد ؟ ولا يحقق هذا التوازن إلا المؤمن ، ولذا فإنه يعيش حياة طيبة مطمئنة ، [ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ]( الرعد : 28 ) بعكس الذي يقدم حاجات الجسد فإنه يختل ميزانه ، وتختفي حدود إنسانيته فيدركه الشقاء ، كالبقال الذي لا يملك ميزاناً يبيع به ، وصاحب الأرض الذي لا يعرف حدود أرضه ، قال تعالى : [ وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً ]( طه : 124 ) .
تقولون : قد عرفنا وسمعنا مراراً ما تقول ؛ فاذكر لنا المخرج من هذا المأزق الذي نقع فيه دائماً ، مع معرفتنا أهمية العناية بالروح وأنه سبب السعادة إلا أننا ننساق وراء الجسد فنشعر بخيبة الأمل والضيق يحاصرنا في كل مكان ؛ فلا نحن الذين علمنا فسعدنا ، ولا نحن الذين جهلنا فاعتذرنا بجهلنا ! فالجواب أن نقول : لا تُنال الثمرة بالأماني والأحلام ، إنما تُنال بالعمل والجد والصدق ؛ فنحن نعلم ونسمع دائماً مثل هذا الكلام ، لكن من الذي يعمل له ؟ إننا نريد أن يدخل الاطمئنان في قلوبنا والعيش الهنيء بمجرد أن نسمع ونعلم دون أن نعمل ، وهذا خطأ ، فلم يكن الإنسان ليبلغ الرزق بلا سعي ، ولم يكن له أن يرزق الولد بلا زوجة ، ولم يكن له ليُشفى من المرض بلا دواء ، وكذا لم يكن له ليطمئن وينشرح صدره بلا عمل صالح وذكر دائم ؛ فحاجات الروح كحاجات الجسد ، وهل يستغني المرء عن الطعام يوماً ؟ هل يستغني عن اللباس وقتاً ؟ هل يستغني عن المسكن لحظة ؟ كذلك لا يستغني عن الذكر والعمل الصالح ؛ فهو محتاج إليه أعظم من حاجته إلى الطعام والماء واللباس والمسكن بل والهواء ؛ فإن حاجات الجسد إذا امتنع منها فإن غاية ما في الأمر هلاك نفسه وبدنه ، لكنه إذا امتنع من حاجات روحه خسر الدنيا والآخرة ، وكان في جهنم معذباً لا يموت فيها ولا يحيا .
هذا العالم المادي بدأ يجمع ما تناثر منه في الحقبة الماضية ويعود إلى رشده بعد إلحاده ويقر بأن عبادة الله هي المنجاة من كل الأمراض الجسدية والروحية ، وعلماء العالم الماديون يعقدون كل سنة اجتماعات مكثفة لدراسة تأثيرات العبادة والذكر على البدن ، ويخرجون بتوصيات تتفق مع ما جاء به الإسلام من أهمية العناية بالعبادة وخطورة الإغراق في الماديات ؛ فهؤلاء أصحاب المادة والعلم المجرد والإلحاد يقولون هذا ، رجعوا عن إلحادهم بعد أن ذاقوا ويلات مخالفة الطبيعة الكونية ومحاولة كسر الخلقة الربانية ، وعرفوا أن الطريق الصحيح هو انسجام الجسد مع الروح لا طغيانه عليه ؛ فهل نحن بحاجة إلى اعترافاتهم ليؤمن بعضنا بما جاء عن ربنا ؟ نعم ! فإن بعض المسلمين وهذا ما يؤسف له لا يؤمن ولا يطمئن إلى الحقائق الكونية والشرعية إلا إذا جاءت عن العالم الغربي المادي ، وهذا نوع من الانهزامية والتبعية المقيتة التي تشكك في إيمان المسلم وتجعله عرضة للتقلبات ، لكن الله تعالى يقول : [ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاًّ مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ]( النساء : 65 ) ، فنحن نؤمن بما جاء عن الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يأتنا دليل غيره ، فما جاءنا عن الشرع كافٍ في حملنا على الاتباع ؛ فثقتنا بربنا سبحانه وبرسول ربنا صلى الله عليه وسلم أعظم من كل شيء .
ثم إننا ننبه إلى أمر هو غاية في الأهمية ؛ فعندما نقول : إن العبادة تبعث على السعادة والطمأنينة لا نزعم أن الدنيا تصبح جنة كجنة الآخرة ، ينتفي منها كل مظاهر الألم والحزن ، لا ، بل الذي ينتفي هو دوامه ولزومه .
أما الألم فهو موجود في الدنيا ولا بد ؛ لأن الله تعالى خلق دارين : دار الدنيا وهي مزيج من الخير والشر ، ودار الآخرة وهي إما خير محض وذلك في الجنة ، وإما شر محض وذلك في النار ، فما دمنا في الدنيا فلا بد إذن من الألم .
قال تعالى : [ وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ]( البقرة : 155 ) ، لكن الفرق بين المؤمن والكافر أن المؤمن موعود بالثواب على الصبر ، وعنده من العلم الإلهي ما يملأ نفسه صبراً ورضىً ؛ فما من ألم يصيبه إلا ويكون كفارة له أو رفعاً لدرجته ، ومهما صبر على المصائب فإنها تنقلب في حقه هي بذاتها نعمة لما كان محتسباً ، يقول صلى الله عليه وسلم : « ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا أذى ولا همٍّ ولا غمٍّ حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها خطاياه » [1] وقال : « إن عِظَمَ الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط ...
» [2].
أعراض القلق :
لا يسلم الإنسان من الهموم ؛ لأن الله خلقه على هذه الصفة ، قال صلى الله عليه وسلم : « أصدقها يعني الأسماء حارث وهمَّام » [3] فهذان الوصفان ينطبقان على الإنسان ، فهو حارث يسعى في رزقه ، وهو همَّام يهتم لما يريده .
والهموم على نوعين : هموم دنيوية ، وهموم أخروية ، فأشرفها الأخروية ، ولا يمكن علاجها ، وأما الدنيوية فيمكن علاجها ، وهي إما أن تتعلق بالماضي أو الحاضر أو المستقبل ، أما الهم المتعلق بالماضي فإن سببه الإخفاق في عمل ما ، أو الألم من إساءة الآخرين ، أو طلب الانتقام من المعتدين ، أو الشعور بنكران الجميل من القريبين ، وأما الهم المتعلق بالحاضر فإن سببه الشعور بالنقص في الذات ، وعدم الثقة بالنفس .. وأما الهم المتعلق بالمستقبل فإن سببه الخوف من الإخفاق في عملٍ مَّا ، والخوف على النفس من الأذى ، وعلى الرزق من الضياع .. هذه أهم أسباب القلق ، ومعرفة السبب أول العلاج .