بالتي هي أحسن
(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِوَجَادِلْهُمْ بِالَّتِيهِيَ أَحْسَنُ)
مدخل لغوي
جادلَ يجادل جدالا و اسم الفاعل منه : مُجادلٌ.
و تدور معاني الجدال في كلام العرب على الشّدة و اللجاجة في الخصومة ، و قد نقلها
الاستعمال و العُرف إلى : الحوار بطريقة لحوحة ، و تحمل في طياتها شيئاً من الشِّدة
بسبب الإلحاح في الإقناع . و منه (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي )،
فقد جاء أنها كانت تراجع النبي صلى الله عليه و اله و سلم كثيراً هو يجيبها و هي تراجعه.
(و جادلهم بالتي هي أحسن).
(أكثر المفسرين على أن الجملة واقعة موقع جوابٍ لشرطٍ محذوف تقديره : إن جادلوك فجادلهم)
بالتي هي أحسن ، لأن الجدال في حد ذاته مُجانبٌ للحُسنى في الحوار لما فيه من معنى الإلحاح و الشدة.
و مع هذا فقد قال: (بالتي هي أحسن ) . يعني إن جادلوك فجادلهم ، و ليكن جدلُك لهم بالطريقة المغايرة لجدلهم المًعتاد ، و ليكن بالتي هي أحسن .
ف جملة (بالتي هي أحسن) مُصاغةٌ في تأويل مصدر(الحُسنى) و هي صفةٌ لمحذوفٍ مُقدر تقديره: بالطريقة التي هي أحسن. أي بالطريقة الحسنى.
و هذه الآية نزلت في حوار نبي الله مع اليهود و المشركين ، و لطبيعة صلاحية القرءان لكل زمان و مكان جاءت على نسق العموم من غير تحديد نوعِ المُجادَل –بفتح الدال- : (و جادلهم) ، و إخفاؤه للمُجادل –بفتح الدال- و الإشارة إليه بالضمير لغرض العموم و الله أعلم .
و كذلك توجيه الخطاب في قوله (ادع إلى سبيل ربك... و جادلهم بالتي هي أحسن) هو في الأصل إلى نبي الله صلى الله عليه و اله و سلم ، و لكنه يبقى خطابٌ لجميع الأمة ؛ لان ما خوطب به النبي تُخاطب به الأمة كلها ، فهي عامة في كل ما يستدعيه الجدال و الحوار.
و الأمر في قوله (و جادلهم) ليس على ظاهره من وجوب الجدال إلا حين الضرورة إليه ، كأن يتلبس الحق بالباطل فحينها يجب الجدال. و هو مما تدخله الأحكام الخمسة: الوجوب ، الاستحباب ، التحريم ، الكراهة ، الإباحة.
و معنى الحُسنى في الحوار أن يأخذ بالتالي:
1- أن يكون في نطاق الحق . و إلا لانقلب حواراً باطلا لا حُسنى فيه ، فالباطل ليس له وجه حسنٌ من أساسه.
2- أن تخلص فيه النية . و إلا لفقد من الحُسنى روحها و رونقها ، و لم يقع في نفس الأخر موقع التوفيق.
فكم من صاحب نيةٍ وصل بكلمة خفيفة إلى أعماق الآخرِين. و قديما قالوا (لَيْسَتِ النائحةُ الثَّكْلَى كالُمسْتَأجَرَة)
3- أن يأخذ بآداب الحوار و فنياته ؛ حتى الطرق التي يستخدمها الأخر في الحوار ؛ فلا يكفي ما تستخدمه أنت من طُرقٍ و أدبيات –إن لم تكن على المعيار السليم للحوار - فإنها تخصك وحدك ، و أنت و الآخر شركاء في الحوار ، و غرضك إقناعه ، ولا يتأتى ذلك إلا بطرق الآخر و أدواته –إن كان له ضوابط خاصة في الحوار- لتصل إلى مرادك .
و هذا باب عظيم من أبواب (و جادلهم بالتي هي أحسن) ؛ و قد افرد العلماء له كُتباً ، و خصوه بالتصنيف و التأليف. و ذلك لأهميته في الوصول إلى الحق حين التباسه بالباطل.
4- إضفاء طابع الود بين ثنايا الحوار. لأنك تحاور الفكر الذي يترصد خلفه قلبٌ مُرهفُ الشعور.
و هذا هو عين الحُسنى. (و قل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم) و اتباع نزغ الشيطان ليس من الحسنى بشيء.
5- التجرد من الأحكام المسبقة لتتمكن (نفسياً) من معاملته و محاورته بالحسنى . فلا تحاور أحداً إلا و قد هذبتَ قلبك و تفكيرك من الأحكام السريعة عليه بناء على موضوعه. فقد يكون حواره لطلب الاستزادة من المعرفة حول موضوع الحوار و قد يكون له غرضٌ آخر.
فليس بالضرورة أن يكون معتقدا له أو ميالاً إليه.
6- إشعار الآخر برغبتك في الوصول إلى الحق بـ ( و إنا أو إياكم لعلى هدئ أو في ضلال مبين).
و من كمال الحسنى في الحوار أن تقول قد يكون الحق في هذه المسالة معي أو معك . فلنتباحث حتى نعرف. و هذا لا يكون إلا عند بداية الحوار ، حتى لا يشعر ألآخر بتصلُّب موقفك من الموضوع .
و أما عند الإنتها من الحوار فقد ظهر للطرفين أحد الاحتمالين منه فلا داعي للتشكيك في نتيجة الموضوع. لأنه مما يُدخل الريبة في النفوس. و هي منافية لغرض الحوار.
7- الإعتراف و الإشادة بصحة رأي الآخر –إن وُجِدَ- في ثنايا الحور ، فإنه مما يُكسب الود ، و يكسر حِدَّة التوتر بين الطرفين و ينقلب من معنى الحوار إلى معنى التباحث بين اثنين متفقين بالجملة.
و هي أجمل طريقة للوصول إلى الحق في المسالة المعينة ، أن تكسب الآخر ليكون معك ؛ فتُضيف إلى قوتك قوةً.
8- عدم إظهار الإنتصار –إن وُجِدَ- بعد انتهاء الحوار ، فإنه مما يزيد الآخر إصراراً في تمسكه برأيه و إن ظهر له بطلانه من خلال الحوار مما يتسبب في وقوعه في الخطيئة . و هو منافٍ تماما لمعنى استعداد التراجع ( و إنا أو إياكم لعلى هُدىً أو في ضلال مبين) .
التعديل الأخير تم بواسطة صفاء ; 05-09-2012 الساعة 07:24 AM