فأما الهموم المتعلقة بالماضي : فعلاجها النسيان ؛ فالرجل الذكي هو من يعيش دقائق ساعاته دون أن ينبش ما في الماضي ؛ فإن حوادث الإساءة والتعدي ونكران الجميل والإخفاق أمور شائعة في كل مجتمع لا نتخيل العالم بدونها ؛ فإن الناس جائرون في أحكامهم إلا القليل ، ومن النادر أن نجد من يعطي كل ذي حق حقه ، ولذا فمن الخطأ أن نتوقع الإحسان من الإنسان في كل شيء ؛ فالظلم والجهل غالبان ، قال تعالى عن الإنسان : [ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً ]( الأحزاب : 72 ) والكامل من غلبت حسناته سيئاته .
إذا فهمنا هذه الحقيقة البشرية استرحنا من التألم من إساءة فلان أو ظلم فلان أو جحوده ، ولو كانوا أقرباء أو أبناءاً ، وليس من الحكمة أن نشغل أوقاتنا وقلوبنا بطلب الانتقام ممن ظلمونا ، فأوقاتنا أثمن من أن نضيعها في هذه الصغائر ، ألا يكفي أننا أضعنا دقائقنا ونحن نستمع إلى إساءتهم ؟ إن قلوبنا الغضة تتألم وتمرض وقد تموت إذا نحن سمحنا لأنفسنا بإعادة التفكير في المآسي الماضية ، ولا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغه الجاهل من نفسه ، فالجاهل يهلك نفسه بما مضى ، وعدوه في راحة مما هو فيه .. والإحسان إلى الناس عمل نبيل ، ومن كان نبيلاً ينبغي له ألا ينتظر ممن أحسن إليهم شكراً أو ثواباً ، بل ينتظر الثواب من الله تعالى [ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً ]( الإِنسان : 8-9 ) ، فالمنتظر ثوابه من الناس يرجع آسفاً متألماً ، لكثرة الجاحدين ، وقد لا يكونون جاحدين بل ناسين غافلين .
إن الرجل المثالي يفرح أن يحسن للآخرين ، ويخجل من إحسان الناس إليه ؛ لأن تقديم الإحسان علامة التفوُّق ، أما تلقيه فهو دليل الفشل .
والإخفاق من طبع البشر ، فلماذا نتألم من حصوله ؟ إن مخترع الكهرباء أجرى مئات التجارب ولم يفلح في واحدة منها قبل أن يصل إلى التجربة الناجحة ، ولو أنه توقف عند أول تجربة منها لما اخترع المصباح ؛ فليس الإخفاق عيباً بل العيب في اليأس ، وليس صحيحاً أن نتوقع النجاح في كل عمل .
وأما الهموم الحاضرة : وهي المستمرة في الإنسان ، المتعلقة به على الدوام ، وهي في العادة تكون متعلقة بشخصيته ، فعلاجها الثقة بالنفس .
إن بعض الناس يشعرون بالنقص ، وسبب هذا الشعور أشياء متعددة ، كأن يكون المرء فيه عاهة ، أو غريباً عن المجتمع في لونه أو جنسه ، فيدفعه ذلك إلى التقيد أو الانزواء ، وهذا خطأ يولد القلق ، لماذا يستحي الإنسان من شيء لم تعمله يداه ؟ إن الله تعالى لحكمةٍ مايز بين خلقه ، وكل إنسان له عقل يستطيع أن يقدم الشيء الكثير لنفسه ولأمته ، ولو كان فيه نقص في بدنه .
كان عطاء بن أبي رباح عالماً لا يفتي في مكة غيرُه ، وقد ذكروا أنه كان عبداً أسود دميم الخلقة جداً ، لكن ذلك لم يمنعه من التطلع إلى المستقبل حتى بلغ أعلى مرتبة ، حتى إن الخليفة جاء وجلس بين يديه كالتلميذ يتعلم منه ، وقام وهو يوصي أولاده بالعلم ، واليوم نسمع برجل مؤمن عظيم يقود شعباً بأكمله وهو مشلول ، وليس فيه شيء يتحرك إلا لسانه ، يقودهم ؛ لأنه لم يلتفت يوماً إلى عاهته ونقص بدنه ؛ فالإنسان في مقدوره أن يكون شيئاً عظيماً في كل الأحوال ما دام يملك هذا العقل .
إن 90% من شؤون حياتنا صحيحة ، و10% فقط هي التي تحتاج إلى تصحيح ، أليس من الخطأ أن نتجاهل هذه التسعين وننتبه للعشرة ؟ وأما الهموم المتعلقة بالمستقبل : فهي التي دافعها الخوف ، الخوف من الإخفاق في العمل ، والخوف على النفس من الأذى ، والخوف على الرزق من الضياع ، وعلاجها غرس الأمل والشجاعة في النفس ، والتعلق بالرب جل شأنه .
فلماذا نتوقع الإخفاق ؟ إذا أقبلنا على عملٍ ما فلنتفاءل ؛ فالفأل من الرحمن ، وهو حسن ظن برب العالمين ، والتشاؤم من الشيطان ، وهو سوء ظن برب العالمين ، فإذا أخفقنا في أمر فلنجابه هذا الإخفاق بهدوء وضبط نفس ، ولندخل العمل ونحن متفائلون نرجو أحسن النتائج ؛ فإذا أخفقنا فلا بأس أن نسأل أنفسنا : ما هي أسوأ النتائج المترتبة على هذا الإخفاق ؟ وما هي الحلول الممكنة ؟ وكيف يمكن البدء بأفضلها ؟ إن الإخفاق شيء متوقع في كل مهمة ؛ ولذا يجب علينا أن نوطِّن النفس على تحمل النتائج السيئة فيما لو أخفقنا .
إن التفاؤل لا بد أن يكون رفيقنا ، لكن يجب كذلك أن نتوقع الإخفاق ونهيئ أنفسنا لتقبل نتائجه ، ونفكر بهدوء في أمثل الطرق التي تخفف من آثاره .
إن أنجح الناس من يملك القدرة على أن يجعل المر حلواً ، والإخفاق نجاحاً ، وهو الذي يحتال على الأزمات فيخرج منها غانماً أو سالماً .. أما الخوف على النفس من أذى الناس فيكفي أن نعلم أن الأمور بيد الخالق ، قال تعالى : [ وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ]( الأنعام : 17 ) ، وأن الناس لا يبلغون أن يضروا أو ينفعوا ولو اجتمعوا على ذلك .. وأما الخوف على الرزق فهو خوف لا معنى له إذا علمنا أن كل إنسان لن يأخذ إلا ما قُدِّر له ؛ وبدل أن يقلق الإنسان على رزقه كان ينبغي له أن يعد النعم التي يعيشها ، فمهما سُلِبَ الإنسان من نعمة فقد أبقى الله له نعماً مقابلها كثيرة ، فقط لننظر في أنفسنا جيداً ، فإذا كان لدينا الماء الصافي والطعام الكافي واللباس الساتر والمسكن الذي يُكِنُّ فإن علينا أن ألاَّ نتذمر أبداً .
علاج القلق : إن وسائل القضاء على القلق كثيرة ومن أهمها : العمل ؛ فالفراغ يولد الملل والقلق ، والانشغال بأي عمل مفيد يقي الإنسان شر القلق ، وإن خير عمل يُذْهِبُ القلق هو محاولة إسعاد الآخرين ؛ فالذي يرسم البسمة على شفاه الآخرين يجد البسمة في قلبه .
ولا ريب أن إيمان المسلم بالقضاء والقدر أكبر معين على تخطي حواجز الاكتئاب ؛ فاسمعوا إلى قوله تعالى : [ مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ]( الحديد : 22-23 ) ، فكل شيء مكتوب مقضي مقدر ، فلماذا الجزع والهلع ؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة » [4] .
هذه العقيدة إذا رسخت في النفس فإن الأثر هو ما بيَّنه القرآن الكريم : عدم الأسى على ما مضى ، وعدم الفرح بما يحصل ، وإذا انضمت إلى هذه العقيدة عقيدة الإيمان باليوم الآخر فإنه لا يبقى للقلق مكان في النفس ؛ فإن الإيمان باليوم الآخر يورث الإنسان الرضا بما يصيبه ابتغاء ثواب الآخرة ، فإن لم يكن الرضا فالصبر ، والصبر مانع من القلق والملل .. ومن أعظم مُذهِبات القلق : توحيد الله وعدم الشرك به ؛ فالمشرك هو أعظم الناس قلقاً ؛ ولذا فإن الانتحار في المشركين كثير ، وكلما عظم التوحيد تصاغر القلق ، وكلما قلَّ التوحيد زاد القلق ، ومن هنا نفهم لماذا كانت : لا إله إلا الله ، هي دعوات المكروب ؟ لأن القلق من الشيطان ، وكلمة التوحيد تطرد الشيطان ، وفي ذلك زوال القلق .
يقول صلى الله عليه وسلم : « دعوات المكروب : اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين ، وأصلح لي شأني كله ، لا إله إلا أنت » [5] .
وعن أسماء بنت عميس قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أعلمك كلمات تقوليهن عند الكرب أو في الكرب الله الله ربي لا أشرك به شيئاً » [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم : « دعوة أخي ذي النون ؛ إذ دعا وهو في بطن الحوت : [ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ ]( الأنبياء : 87 ) ، لم يَدْعُ بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب له » [7] ، وكان إذا أكربه أمر قال : « يا حي يا قيوم ، برحمتك أستغيث » [8] .
وما سبب كثرة القلق بين المسلمين اليوم إلا ضعف توحيدهم ، وسبب ضعف توحيدهم كثرة معاصيهم وجهلهم بأمور التوحيد ، لكنهم لا يقرون بهذا الجهل ؛ فالكثير يزعم أنه يعرف أمور التوحيد التي تقيه من الشرك ، لا لأنه تعلَّمها ، لا ، بل لأنه نشأ بين أبوين مسلمين ، في بلاد المسلمين ، وكأن النشوء في بلاد المسلمين يهب الإنسان علماً ! وما هذا إلا تلبيس الشيطان ، ولو أجرينا اختباراً بسيطاً في أمور التوحيد وأمور الشرك لهؤلاء المتعالمين لوجدناهم أجهل الناس بما زعموا أنهم به عالمون ؛ إذ التوحيد لا ينال إلا بالتعلم والعمل ؛ فمن علم وعمل واجتنب المعاصي استراح من القلق .
إن أعظم وسيلة للشفاء من القلق هو الإيمان بالله ، والمؤمن الحقيقي لا يصاب بالقلق ، وآلاف من البشر المعذبين بين أيديهم الشفاء لو أنهم تطلعوا إلى رحمة الله بدلاً من أن يخوضوا معارك الحياة بمفردهم .
أما الهموم الأخروية فهي التي تتعلق بما يتعرض له الإنسان بعد الموت من عذاب القبر وأهوال القيامة وأحوال الجنة والنار ؛ فهذه الأمور لا ريب أنها مقلقة ولا مخرج منها ؛ فكيف للإنسان أن يسلم من الموت أو من أحوال القبر أو أهوال القيامة ؟ إما إلى جنة أو إلى نار ؟ يقول تعالى : [ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ]( الحج : 1-2 ) ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يسأل الله الجنة ، ويستعيذ به من عذاب النار وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال في كل صلاة .
إن هموم الدنيا بمقدورنا أن نتغلب عليها ، أما هموم الآخرة فمن المحال أن نتغلب عليها ؛ لأنها آتية واقعة لا محالة : [ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ ]( الذاريات : 23 ) ، والتهرب منها نقص في العقل ؛ فإن من تعامى عن هموم الآخرة يسيء إلى نفسه مرتين : المرة الأولى بتغافله عن الحقيقة ، والثانية أنه يبعد عن نفسه سبباً هاماً من أسباب علاج القلق ، وبيان ذلك : أن همَّ الآخرة يدفع الإنسان إلى العمل الصالح والتوقف عن العمل السيِّئ الذي هو سبب الشقاء .
إذاً هموم الآخرة هي بذاتها تزيل الهموم ، وهذا من أعجب الأمور .. هموم تزيل هموماً ؟ نعم ! إذا صار الإنسان لا يهتم إلا لآخرته ، ويخاف من الخسران ومن النيران ، فإنه سيقصر عن المعاصي التي هي من أهم أسباب الاكتئاب ، وهو بذلك يستريح من السبب الأعظم المسبب للقلق ، وفوق ذلك ، فإن من جعل الآخرة همه كفاه الله هم الدنيا والآخرة ، قال صلى الله عليه وسلم : « من كانت همَّه الآخرة ، جمع الله له شمله ، وجعل غناه في قلبه ، وأتته الدنيا راغمة ، ومن كانت همه الدنيا ، فرَّق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب الله له » [9] .
وقد كان السلف رحمهم الله كثيراً ما يهتمون لأمر آخرتهم ، ولا يهتمون لشيء من أمر الدنيا ، حتى كان منهم من يبول الدم خوفاً من الله ، ومنهم من يصفرُّ لونه إذا قام يتوضأ ، بين جباههم كأمثال رُكَب المِعزَى من طول السجود ، يعلوهم حزن عميق ، وعيونهم تنهمر على الدوام ؛ فهذا أبو بكر رضي الله عنه كان كثير البكاء ، و عمر رضي الله عنه في وجهه خطان أسودان كشِراك النعل من أثر البكاء ، وكان منهم من إذا ذكر الموت انتفض كما ينتفض الطير ، وبعضهم إذا أوى إلى فراشه تقلب وتأوه ، لا يأتيه النوم من ذكره للنار ، وقد عُرِضَ بول الإمام أحمد حين مرضه على طبيب فقال الطبيب : « هذا رجل قد فتت الغم والحزن جوفه » [10] .
التعديل الأخير تم بواسطة الرماني ; 13-03-2010 الساعة 01:23 PM