جميل جدا أن نشعر بالدفء في ليالي الشتاء الباردة، وببهجة الربيع وروعة نسائمه في لياليه المقمرة، وجميل أيضا أن نحس بموسيقى حالمة و رائعة وسط صخب الحياة وضجيجها ومتاعبها ومشاكلها، والأجمل من هذا كله، أن تشعر الفتاة الحالمة أنها ملكة متربعة على قلب رجل.مع أنها عادية في بيتها وبين أقرانها.
أو أن تحضى باهتمام خاص، مع أنها لا تحصل على أي اهتمام بين والديها واخوانها، وأن تسمع أحاديثا شجية عنها وعن أنوثتها وجمالها، بينما أبواها لا يريان إلا نقائصها، وأن تظل تبوح وتتكلم وتجد من ينصت لها باهتمام، بينما في بيتها قد لا تجد من ينصت لها و يأخد برأيها أو حتى أن يعبرها ، وما أجمل أن تسمع كلمات المدح والغزل تتناثر عليها من هنا وهناك، مع أنها لا تسمع من والديها إلا عبارات اللوم والتوبيخ .
ولكن، ليس كل ما يلمع ذهبا، والحياة لا تقاس بكلام الغزل والمدح والاثراء. من يستطيع أن يحبنا في هذه الدنيا أكثر من أي شيء آخر؟ ومن يتمنى أن نكون أفضل منه؟ ومن يعتز ويفتخر إن حققنا نجاحات في حياتنا؟ وما الهدف من الوالدين منا في هذه ؟ وما الهدف من الحبيب؟
صحيح أن الحب هو أرقى احساس في الكون، وهو دفء الخواطر وسمرها في أروع كون وأجمله، وهو نبض للأحاسيس المرهفة فينا، يغمرنا كماء الحمام الفاتر فننتعش، ولكن مقابل ذلك ينبغي أن نتعامل معه بأرقى تعامل وأرقى تصرف، لا أن نطلق العنان لعواطفنا تفعل فينا ما تشاء وإلا ساعتها سنكون نتكلم عن شيء آخر غير الحب، فسرعان ما تنقلب السعادة إلى تعاسة والأمل إلى اكتئاب وندم وحسرة وخيبة للأمل وشعور بالقهر والذل.
لا يعني هذا أن نتخلى عن الحب، لأنه إن أمعنا النظر في الكون المحيط بنا نجد أنه في تكوينه مبني على الحب، فالكواكب مثلا لا تفارق مجموعاتها لأنها دوماً في حالة انجذاب، والقمر لا يغادر الأرض لأنه في حالة ارتباط، وتلك النواة الصغيرة جدا أي الذرة التي تلتف حولها إلكتروناتها هي دائما في حالة من التجاذب والترابط، وكأن هناك رسالة تقول أن الحب أساس كل شيء في الوجود.
ولكن هناك العديد من القصص المؤلمة بطلاتها فتيات في عمر الزهور أخذن طريقهن مباشرة نحو الضياع والدمار، بعدما كانت أحلامهن وآمالهن تضم عالما بأكمله، بعدما غرر بهن باسم الحب فانجذبن ورائه كما ينجدب الحديد للمغناطيس، مليكة واحدة من أولائك الفتيات الحالمات، سكتت قليلا ، ثم عبرت بعدما تركت الذاكرة تعود بها قليلا للوراء للتتذكر حينما كانت جميلة و جدابة تنتظر بفارغ الصبر ظهور نتائج الباكالوريا لتسرع بنقل الخبر بالهاتف لأبيها المهاجر بفرنسا، ودقائق قبل موعد الاعلان عن النتائج، فوجئت مليكة كما حكت ، بيد ثقيلة توضع على كتفيها، كانت يد أحد أبناء الجيران المقيم بإيطاليا والذي يأتي كل صيف للمغرب، مرت التساؤلات بسرعة على مخيلة الفتاة المسكينة، أمعقول أنني قد نلت إعجابه بعدما جعل معظم فتيات الحي يهمن به؟ كان شابا وسيما جدا، مهتما بهندامه وبلياقته جدا، وعلاقاته بالفتيات كثيرة وواسعة جدا جدا.
وفي ظل هذه التساؤلات، فاجأها الشاب أنه هو أيضا قلق بشأن نتائج امتحاناتها لأنه بكل صراحة يحبها منذ وقت طويل ولكن الفرصة لم تكن مواتية ليعبر لها عن شعوره اتجاهها. دقائق قليلة وأعلن عن نتائج الامتحانات التي كللت فيها مليكة بالنجاح، فأصر الشاب أن تخبر البنت والدها بالنجاح من خلال هاتفه المحمول، اعتذرت لكنه أصر... فاتصلت، وبعد ذلك دعاها ليحتفل معها بالنجاح ، قبلت الدعوة، وهناك في المقهى المطل على البحر، أخبرها أنه يحبها ولا يستطيع أن يعيش بدونها، والعديد من العبارات التي صدقتها و جعلتها تعيش في هيام ، وماكان منها إلا أن صارحته هي أيضا بحبها، وعند ذلك دعاها، لبيت أحد أصدقائه لا لشيء.. فقط ليتكلموا على راحتهما بعيدا عن أنظار المتتبعين، وفعلا ذهبا إلى هناك... والتقيا وتحدثا وعبر كل واحد منهما عن أحاسيسه اتجاه الآخر و... وقبل منتصف الليل عادت مليكة للبيت، طبعا الأسرة لم تبد أي ملاحظة لأن الفرحة بالنجاح غطت على كل شيء، وأغلب الظن أنها ذهب رفقة صويحباتها ليحتفلن بالنجاح.
يوما بعد آخر وجدت مليكة نفسها متعودة على الذهاب مع ذاك الشاب لذاك المنزل، ليعبر كل منها للآخر عن أحاسيسه، وفجأة اكتشفت الفتاة أنها حامل، ماذا تقول لوالديها ؟ وللجيران؟ ولصديقاتها؟ و..... ولكن صدمتها كانت أكبر حينما أخبرت الشاب بالمشكل وطلبت منه الحل؟ لكنه استهزأ بالأمر وطلب منها (ألا تعقد الأمور)، فكل شيء سيمر على أحسن ما يرام، لتفاجأ بعد ذلك أنه سافر لإيطاليا حتى دون أن يودعها، ليتركها للمصير المجهول، خافت المسكينة أن تصارح أحدا بالأمر، وقررت أن تجمع حاجياتها وتهرب لمكان لا يعرفها فيه أحد، وبقيت تنتقل من مكان لمكان، ومن بيت لبيت تارة تعمل خادمة في البيوت، وتارة تنام في الشارع بعدما أنجبت بنتا ووضعتها أمام باب إحدى المساجد، وهكذا إلى أن احترفت الدعارة وأصبحت هي أيضا ممن يهربن كلما شاهدن سيارات الأمن تمر من جانبهن مخافة أن يلقى عليها القبض.
قصة رشيدة لا تقل ألما عن سابقتها، كانت فتاة لم تتجاوز العشرين بعد، ذات سحنة بيضاء وترتدي ثيابا رثة، معظم أسنانها سقطت بفعل الكحول والمصائب الأخرى التي تتناولها، لحسن الحظ أنه لما بدأنا الحديث كانت في كامل وعيها لم تكن في حالة سكرها المعتاد ، تحدثت لي ببراءة وبسخط على هذه الحياة فقالت : " أساس مشكلتي هو جمالي..أقصد.. كان.." وتنهدت وسكتت برهة ثم تابعت، "أبي مركزه حساس، كان صارما معنا لا نستطيع أن نضحك أو نتحدث ان كان موجودا بالبيت، وكنت جميلة وكلما خرجت للشارع تعرضت للعديد من المعاكسات والتحرشات.
مرة التقيت رجلا قرب باب الاعدادية التي كنت أدرس فيها، كان وسيما ويملك سيارة فخمة لم ألق بالا لنظراته لاني كنت أضع في حسباني انه في سن والدي ولا ينظر لي كما ينظر لي الباقون... من الشباب والمراهقين، فوجئت به يشير لي بيده ، رفضت واستأنفت طريقي للبيت، وفي الطريق استوقفني ودعاني بلطف لأركب معه السيارة، ركبت، وفي الطريق دعاني لنجلس في مكان ما لنتحدث بعيدين عن الضوضاء ، وافقت وكل ما خفته ساعتها ان يراني احد فيخبر ابي، الذي يفضل أن يراني ميتة على أن يراني رفقة أحدهم، أظهرت له خوفي وتركني أنزل من سيارته، وبدأت أفاجأ بحضوره يوميا أمام باب الاعدادية، بقي على هذا الحال معظم أيام السنة الدراسية تقريبا، وكل يوم يأتي ومعه نوع من الهدايا، في البداية كنت أمانع من أخذ الهدايا مخافة أن يسألوني في البيت عن مصدرها، فاستحسنت أن يعطيني النقود بدل ذلك.
وبالفعل تعودت على أخذ النقود، وشيئا فشيئا بدأت أتعلق به وأشتاق لرؤيته وأحسب الساعات كي تمر بسرعة لأراه، وبعد حلول العطلة الصيفية، بدأت ألتقيه في أماكن أخرى وكان دائما يغمرني بحنانه وبعطفه وبماله وكان يقول لي دائما أنه كله ملكي وماعلي سوى أن آمره بأي شيء أرغبه، كنا لا نتغدى أو نتعشى إلا في الفنادق الفاخرة، وكنت دائما أجد الحلول للخروج من البيت لأذهب سريعا لألقاه، وشيئا فشيئا أصبحت لقائاتنا تتم في بيته، بعدما أخبرني أنه مطلق ويعيش لوحد و يشعر بوحدة قاتلة... بدأت أدخن معه بعدما كان يجلب لي أغلى أنواع التبغ، وشيئا فشيئا بدأت أحتسي معه الخمر لنحس بنشوة أكبر، إلى أن أصبحت مدمنة على هذه الأمور.
ومرة اكتشف أبي أن رائحة الخمر تنبعث من فمي، جن جنونه ورمى بي إلى الخارج بعدما رمى بكل أغراضي، فقصدت بيت ذاك الرجل، فاستقبلني بلطف وعشت معه أحلى الأيام التي نسيت خلالها مشكلتي مع أسرتي، وبعد شهور تغير حاله معي أحسست أنه لم يعد كما في السابق، تبعته مرة واكتشفت أنه على علاقة بفتاة أخرى، ولما عاد صرخت بوجهه وبكيت، وما كان منه إلا أن طردني من البيت، وهددني أن أقترب منه مرة ثانية، حاولت أن أعود للبيت لكن أبي رفض بل هددني بالقتل ان رآني ثانية، أما أمي فقالت لي(احمدي الله انه لم يقتلك، شوّهتينا.. منك لله.. برّا)، أصبحت أنام في الشارع هناك تعرفت على بعض الشباب المشردين واتفقنا أن نعمل أي شيء المهم في آخر الليل نجد ما نأكله ونشربه وندخنه، فامتهنت كل شيء السرقة، بيع التبغ بالتقسيط، الدعارة و كل ما يخطر على بالك" .
هذين نموذجين من واقع مرير... واقع تعيشه معظم الفتياة اللواتي اتخدن من الشاعر بيتا ...بل ربما لكل واحدة حكاية لا تختلف عن الأخرى الا في بعض التفاصيل... لكن النتيجة تبقى واحدة و البداية متشابهة تبدأ بنظرة فابتسامة ثم موعد فلقاء، فدمار فضياع، وقصتا حليمة ورشيدة ليستا سوى نقط من بحر يموج بالضحايا والآلام ...والفتاة العاقلة لا تؤمن بالحب من أجل الحب...ولكنها تؤمن بالحب كمقدمة لحياة الاستقرار و بناء أسرة التي تكون الخلية الأساسية للمجتمع التي ان صلحت صلح المجتمع و ان فسدت عم التشرد و الضياع !