ولكن قصاصة من كلام من ابن جبرين أو خطبة منه قلبت الدنيا ظهراً على عقب , وتلقفتها القنوات الإخبارية مباشرة , وسعت الصحافة لإبرازها والحديث عنها فالمتحدث هو العالم الجليل وبطل الرياض العظيم .
كلامه عنهم طار في الشرق والغرب وأصبح تاريخاً لوحده , كما فعلت فيهم يوماً من الأيام خطبة إمام المسجد النبوي الشيخ علي الحذيفي , لقد تعالت صيحات الرافضة مطالبة النصارى بمحاكمة ابن جبرين !! , تعالت صيحاتهم المشبوهة مطالبة بمحاسبته علناً وهو طريح الفراش يصارع المرض لا يدري عن نفسه , فهل رأيت مريضاً يهابه ملايين الأصحاء في الأبدان!!, فصحة العقل والدين لا يعدلها صحة وقوة , ومرض العقل والدين لا يصلح معه شيء آخر.
ابن جبرين رغم فتاواه في الرافضة قد بين مراراً للطلاب والناس مغزى الفتاوى , فبيان الحق لا يعني استحلال الدماء وخلخلة الأمن , ففرق بين البيان العلمي وحماية عقول الناشئة والعامة , وبين القتل والتدمير وإزهاق الأرواح .
وهذا حق وعقل , ومتى اجتمع الحق والعقل الرشيد صلحت البلدان وعمرت الأوطان وحميت الأديان , وإذا نظرنا كيف أن الله أمر بجهاد المنافقين , وأمر بالغلظة عليهم , وهذا الأمر بجهادهم جاء في أكثر موضع , ولم يكن أمراً للندب بل هو للوجوب , ومع ذلك لم يأمر الله بقتلهم , ولم يأمر الله بزعزعة الأمن في المدينة النبوية التي كثر فيها المنافقون في عصر النبوة , وقد تَرَك النبي صلى الله عليه وسلم قتلهم تقديراً لشعور الناس العام وحتى لا يقال إن محمداً يقتل أصحابه .
وكان النص القرآني يفضحهم ويفضح مخططاتهم , ويُشِّهر بأعمالهم , ويتحدث عن صفاتهم وطريقة كلامهم , ولكن بقيت شخوص كثير منهم مجهولة لكثير من الصحابة , حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخبر نفراً يسيراً من الصحابة عن شخوص المنافقين وأسمائهم , وعاش الناس في ظل دولة إسلامية , تطبق شرع الله , وتقيم حدود الله , وهي تعلم أن من بين أبنائها ومن بين أعضائها شياطين في المكر والفساد والعناد .
وإذا كان هذا حال القرآن مع المنافقين فهكذا حال العلماء الربانيين مع أهل البدع , فهم يبينون للناس دين الله , ويفضحون المخططات ويجهزون عليها , يقولون الحق بدون مواربة أو ضبابية أو غموض وتلبيس , فدين الله له رجال يحمونه , وله رجال يذودون عن حياضه , ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين .
وكلام أهل العلم يجب أن يفهم على أنه للبيان والحقيقة , وليس استغلالاً لواقع سياسي أو مطمع دنيوي , وأعمال الجُهال لا يلام عليها العلماء , وإلا لحذفنا آيات العداوة من المصحف مع اليهود والنصارى حتى نجامل اليوم الغرب ونسير في ركاب حضارتهم .
******************
الرحالة الكبير في جبال وصحراء المملكة :
الحق الذي لا مرية فيه أنه بعد وفاة شيخه ابن باز أصبح عالم الرياض الأكبر , ومفتي الناس , ومعلم الناس الخير , الشيخ الذي يتترس الشباب الأقوياء بفتاواه ومواقفه ويكون أولهم في الصف , صاحب الرحلات الصيفية الوعظية والإرشادية الطويلة جداً .
تراه وهو شيخ كبير تتناوشه الأمراض , يسافر في كل صيف يطوف المملكة من شرقها إلى غربها , ومن الجنوب إلى الشمال , يقطع الآف الكيلومترات , يبحث عن الناس في المدن , أو في البوادي , يبحث عنهم في مدينة عالمية , أو قرية ساحلية , أو مجموعة تعيش في الجبال بعيداً عن الحضارة , لا يهمه ذلك , المهم أنه سيجد بشراً يتحدث معهم , سيجد أقواماً يرشدهم إلى الله, سيجد أناساً يسألونه فيجيب .
يجلس بين الناس بكل حب وود ونقاء , يبين لهم أحكام الشريعة بوضوح ويسر , يراعي ظروفهم , ويتكلم بما يناسب عقولهم , يتكلم ولا يمل هو من الحديث المكرر فهو يتكلم في هذه القرية , ويعيد الموضوع عند جارتها , وهكذا بدون ملل , ربما شرح لهم كتاباً وأقام أياماً , وربما عقد لهم دورة علمية مكثفة كل سنة , يكتب لهم التزكيات والتوصيات , ويزور مشاريعهم الخيرية ويجلس مع أعضائها , ويلتقي بالقضاة وطلبة العلم والدعاة الذين يحرصون أن يروه ويجلسون معه , مع أنه لا يحمل صفة رسمية للزيارة , بل يسبق زيارته أحياناً تنسيق مع رجال الدعوة هناك , لا يدخل قصور المسئولين والأمراء في المناطق إلا نادراً , تراه يسكن في منزل متواضع أو فندق عادي , يظنه الإنسان يستعجل نشاطه قبل عجزه , ويمارس رياضة مع روحه وجسده ليرتقي بها للكمالات .
وكل هذا يفعله بدون مقابل مالي أو تكليف رسمي , والأعجب أنه يسافر بدون أن يتنقل في طائرة ليس لأنه يحرمها , بل لأنها لن تدخل القرى والبوادي التي يريدها , فهو يتنقل بسيارته في لهيب الحرّ حيث صيف الجزيرة العربية اللافح , يتنقل مع رفقة من طلابه , تارة في مدينة جبلية أو في مدينة ساحلية , من مكة إلى جدة والطائف والباحة وأبها , ثم تراه يسافر إلى الساحل الشرقي لدورة علمية مكثفة , ثم يعود إلى المدن النجدية القائمة على الصحاري اللاهبة , ثم شمال الجزيرة مروراً بالمسجد النبوي , ويستمر في الرحلة قرابة الشهرين من كل عام , وهو قد جاوز السبعين من عمره .
ولقد حدثني عدد كبير من الدعاة عن القرى النائية التي دخلها , ولقد رأيته بنفسي أيضاً يدخل مناطق وقرى بعيدة عن مواطن التجارة والمطارات والأسواق , وهذه القرى لم يزرها داعية بحجم أحد من طلابه فكيف بمثله , فتراه بين الجبال في قرى تهامة , وفي سهول الأودية , وفي قرى الشمال حيث الصحراء , وهو في غاية النشاط والحرص على التعليم .
يتغير رفقائه في الرحلة أحياناً , فمن ذا الذي يستطيع أن يصمد كما يصمد ؟ , ومن ذا الذي يتحمل ويطيق ما يتحمل ؟ .
إنه يحمل قلباً نقياً , قلباً ينبض بحب الإسلام , قلباً لم يزل يحب الناس ويأنس بهم , قلباً يحب الإرشاد والوعظ والتعليم ونفع الناس , إنه يبحث عن الناس ولا يكتفي بمجرد الكلام , يبحث عنهم في المساجد والتجمعات .
حدثني أحد خواص طلابه ممن يعمل مدرساً في إحدى الجامعات قائلاً :
قررت يوماً أن أصحبه في محاضرة خارج الرياض بمائة وخمسين كيلاً , فاتفقت مع سائقه الذي هو من طلابه عادة , فصليت العصر مع الشيخ في المسجد يوم الأربعاء , فألقى درسه في الفرائض وشرح الرحبية , ثم انطلقنا قبل المغرب وصلينا قي أطراف الرياض , ولازلنا نسير وهو يملأ السيارة علماً وحكمة حيث كنا اثنان معه فقط , وربما سمع شريطاً لبعض محاضرات طلابه أو من في مستواهم , يقول تلميذه هذا ثم استأذنته في قراءة قطعة من كتاب زاد المستقنع , فأذن لي , فكان يشرح لي كما يشرح في المسجد أو سع , وكنت أناقشه في كل مسألة , وهو لا يتململ من ذلك بل يفرح بذلك , فلما قارب وقت العشاء وصلنا للمدينة التي سيلقي فيها المحاضرة وكانت بعد العشاء , فألقى محاضرته وهو في غاية النشاط والقوة , يقول محدثنا فغلبني النعاس من وعثاء السفر , ولكني تمالكت نفسي , ثم انطلقنا بعد المحاضرة لمناسبة دعي إليها في هذه المدينة , فحضرها وألقى عليهم بعض النصائح والمواعظ , وأجاب على أسئلتهم , وفوجئت أن المحاضرة كانت عبارة عن درس شهري يلقيه عليهم من سنين بانتظام .
قال صاحبنا: ثم قفلنا عائدين للرياض , فإذا هو يحمل في جيبه شريطاً تسجيلاً أهداه له أحد الناس بعد المحاضرة فستأذن منا لتشغيله وسماعه , وبعد سماعه وفراغه عدنا لحديثنا الشيق وسماع الفوائد منه , ووصلنا للرياض في تمام الساعة الثانية ليلاً , وأوصلنا الشيخ لسكنه , يقول صاحبنا وذهبت لأنام ولكنني فوجئت بأن درس الخميس لابن جبرين بقي عليه نحو ثلاث ساعات فقط ويبدأ , وسألت من معي هل أقام درسه اليوم الخميس فكانت المفاجأة أنه أقام الدرس واستمر مع طلابه وأحبابه يشرح لهم ويعلق إلى قرابة الساعة التاسعة صباحاً , ثم أقام دروسه في ذلك اليوم كالمعتاد. .إنتهى كلام تلميذه الحبيب .
كان بإمكانه أن يبرر لنفسه بكبر سنه وتأثير السفر عليه وعلى صحته , أو يبرر لها خشونة صوته , أو توفر القنوات الفضائية ذائعة الصيت التي كانت تستضيفه وتذيع حلقاته ودروسه , لكنه لم يفعل ذلك أبداً .
فظهر في القنوات حيث القوة الإعلامية وسعة الانتشار , وظهر في حلقات المساجد حيث الشباب المتوضئ الجميل الطلعة , وظهر في جلسات البيوت حيث الخصوصية وحرية الحوار , وظهر في مجالس الملوك والوجهاء حيث الأبهة والعظمة , وفي كل ذلك كان هو ذلك الذي يعرفه الناس , فلم تتغير نبرته , ولم يتغير موقفه , ولم تتغير رقته وبساطته.
******************
المعلم المحتسب الحليم :
بن جبرين هكذا يقال اسمه اختصاراً , عالم ٌ فريد الطراز , يلقي دروسه على طريقة الشرح والتقرير و التحرير غالب , اليوم ويشرح في اليوم الواحد كتباً وفنوناً تحتاج لتحضير وتأمل ومراجعة , لكنه واسع الإطلاع , سريع التحضير , يستحضر الأدلة والنصوص كما يستحضر الهواء لرئتيه .
ابن جبرين يجمع بين المعرفة بالنصوص الشرعية , ومعرفة المذاهب الفقهية , وبين الربط والتحليل واختيار القول الصحيح حتى لو خالف ما عليه الناس , ففتواه يأنس بها طلبة العلم لما فيها من القوة العلمية , ففيها الجمع بين أقوال الفقهاء القدامى , مع دقة الفقه والفهم للمسائل المحدثة المعاصرة التي يكثر فيها الخلاف والنزاع .
فتاواه سبق بها علماء عصره , و لذلك رغم تدريسه لمذهب الحنابلة فهو متوسع في الإطلاع على الحديث والأدلة , بل هو أميل لمذهب المحدثين , فكانت فتاواه تحمل المعاصرة مع هيبة الدليل , فلم يكن ليرضي العامة بفتاواه أو يساير الواقع ويبرر للناس فعلهم , ولكنه يبحث عن الدليل ويجمع أقوال الفقهاء فيكون قوله أشبه ما يكون فيصلاً قوياً عند النزاع , فيحترم طالب العالم رأيه لأنه مبني على دليل وليس هوى أو مجاراة لما يطلبه المستمعون .
عرفه الناس قبل فترة طويلة بأنه صاحب الفتاوى الجريئة التي ربما تخالف بعض أراء مشايخه أو المذهب الحنبلي , ولكنه لم يكن ليفتي بالرأي أو إرضاء للجمهور أو العامة بل كان الحق مذهبه والدليل قائده وهاديه .
يحب ويأنس التدريس في المساجد , وهو متعته وغايته في الحياة , فالمسجد هو منبع قوة المسلمين , ومكان اللقيا فيه هو سمت الصالحين وشعار المؤمنين , فلم يكتف بالظهور الإعلامي القوي, أو ينتقل للمسارح والقاعات الفخمة فقط , بل جمع بين الحسن كله , ولكنه لا يقدم على المسجد شيئاً , حيث تؤدى الصلوات وتتنزل الرحمات وتخشع القلوب في بيوت الله تعالى .
فهو يجلس في حلقته يومياً ساعات يُدّرس , يجلس على كرسي متواضع مرتفع قليلاً ليراه الطلاب الكثيرون , طلابه فيهم القضاة وفيهم أساتذة الجامعات وفيهم أصحاب المناصب الرفيعة وفيهم شباب في بداية الطلب من طلاب الجامعات وغيرهم وهم من جنسيات مختلفة , وبقدرة فائقة يمنحهم جميعاً حناناً واحداً ومحبة صادقة وهم يبادلونه الشعور بالمثل .
يلتف الطلاب حوله كفراشات تجمع الرحيق الجميل , يعلمهم ويفهمهم , لا يمل من أسئلتهم واستشكالاتهم , يسهل لهم المعلومات ولا يعقدها , يحاول إيصال الفكرة بأقرب طريق فيضرب لهم الأمثلة , يستشهد بالأشعار التي يحفظ منها المئات الكثيرة ليشحذ أذهانهم , ويلقي عليهم الأسئلة ليختبر جودة فهمهم , يدرس لطلابه الكتب المنوعة في العلوم , فهو مُعلمُ للحديث والمصطلح , ومُعلمٌ للفقه وأصوله , ومُعلمٌ للعقيدة الصافية النقية , وُمعلمٌ للغة العربية نحوها وصرفها , وهكذا تنوعت معارفه وقدرته , لكنها لم تكن عن تشبع بما لم يعط , ومحاولة لإظهار العلم , بل هي قوة علمية شهد له بها كبار شيوخه , وأذنوا له في التدريس والتعليم .
يعتني بعقائد طلابه , يعلمهم عقيدة الإسلام النقية ويحذرهم من البدع , ربما لحقه تجريح وردود على بعض ذلك في بعض الوسائل الإعلامية لكنه لا يبالي , فصفاء عقائد المسلمين أولى في نظره من كل شيء , فماذا ينفع الطالب علمه إذا فسدت عقيدته , أو شك في المنهج الذي يتبعه , أو ضعف في بيان الحق الذي ينجيه من النار يوم القيامة , وإذا رأى الطالب شيخه يعتني بالعقيدة ترسخ ذلك في مستقبل حياته , وترسم ذلك في طريقة تعليمه لمن سيعلمهم بعد موت شيخه .