تنمية الرقابة الذاتية لدى الناشئة
بسم الله الرحمن الرحيم
تنمية الرقابة الذاتية لدى الناشئة
د. رقية المحارب
في مجتمع اختلط فيه الحابل بالنابل!
وذابت كثير من القيم والمبادئ!
ووجهت العقول بتوجيهات ربما لا تؤمن بمسلماتنا العقدية، وربما تؤمن بها ولكن تراها لا تناسب هذا العصر، أو لا يمكن العمل بها في عصر الإنترنت والفضائيات. ويرى بعضهم أنه آن للناشئ أن ينطلق ويكون بصيراً على نفسه ويختار الوجهة التي يريدها دون أن يكون ثَم اعتبار لتنشئته أو إعداده إعداداً يجعله قادرا على مواجهة سلبيات امتزاج الحضارات بخلفياتها العقدية والاجتماعية.
ويرى البعض الآخر أن الحل في عزل الناشئ - إلى حد كبير - عن المجتمعات المنفتحة؛ خشية تأثره بسلبياتها أو ذوبانه في أفكارها.
ولعل الأول يخسر كثيرا إذ يصبح بلا هوية ولا شخصية، بل هو مسخ غير سوي.
أما الآخر فمهما ترك الناس فلن يتركوه، ومهما حاول الابتعاد بنشئه فلا بد أن يكون لتلك القنوات تأثير عليه بطريق غير مباشر.
فلابد أن يكون لنا وقفة جادة لدراسة حال الشباب غير المحصن وغير المهيأ تهيئة تجعله قادرا على مواجهة ركام الحضارات المختلفة والمخالفة لمبادئه ومعتقده.
إن سن التكليف هو المرحلة التي يمكن أن يُحاسب عليها الفرد ويُؤاخذ على تقصيره أو خطئه. وهذه المرحلة التي حددها المنهج الإسلامي بالبلوغ حددها علماء النفس غير المسلمين أيضا، كما أكد ذلك (بياجيه) و (كولبرج) في نظريتهما، فالفرد في هذه المرحلة ينطلق من ذاته وقناعته، ويفعل ما يراه صحيحا دون التعويل على القيود النظامية، ودون التقيد بآراء الآخرين، فهو يسلك وفقا لمعاييره الذاتية ويشعر بتأنيب الضمير واحتقار الذات عند مخالفتها[1].
وإذا دققت النظر أيقنت أن الناشئة يتفاوتون في الرقابة الذاتية وفي احترامهم للمبادئ والأخلاق، بل وفي تطبيقهم وقناعاتهم بالعقائد والعبادات.
فما هو السر في اختلافهم هذا؟
إن تعرضهم لأسباب وجود الرقابة الذاتية وتقويتها منذ الصغر هو المسؤول عن قوة دفاعهم عن مبادئهم وأخلاقياتهم، فضلا عن تمسكهم بها وانقيادهم لها بقناعة.
وقد أجملت عدة أسباب لتنمية الرقابة الذاتية مستقية هذه الأسباب من الهدى النبوي؛ لأن رسولنا ـ صلى الله عليه وسلم - هو المربي الأول.
أولاً: ربط الناشئ بالله:
ليكن أول شيء تعلمينه للناشئ تعريفه بخالقه وربه بأسهل عبارة وأيسر صورة، فإن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حين سأل الجارية "أين الله؟" وأشارت إلى السماء قال: "أعتقها فإنها مؤمنة".
فأول شيء ينبغي أن يربى عليه الناشئ: معرفة الله بآياته ومخلوقاته ورزقه ومعافاته، وذلك عن طريق الحوار المبسط: (مثال: من أعطاك هذا؟).
فارتباط الناشئ وهو في سن الوعي والتميز بروابط اعتقادية.. وروحية.. وفكرية.. إلى أن يتدرج يافعاً.. إلى أن يترعرع شاباً.. إلى أن يصبح رجلا.ً. إلى أن ينحدر كهلاً.. فإنه بلا شك سيصبح عنده مناعة الإيمان وبرد اليقين وحصانة التقوى، مما يجعله يستعلي على الجاهلية بكل تصوراتها واعتقاداتها.
لأنك إذا عمقت في ولدك حقيقة الإيمان ورسخت في قلبه العقيدة الإلهية.. فإنه ينشأ على المراقبة لله والخشية منه والتسليم لذلك.
وسيكون عنده من حساسية الإيمان وإرهاف الضمير ما يكفه عن المفاسد الاجتماعية والوساوس النفسية والمساوئ الخلقية ويكتمل عقلياً وسلوكياً.
ثانياً: ربط الولد بالقرآن:
مع ما يردده البعض من أن القرآن يسهل على الصغير فهمه، وأن تحفيظه ما هو إلا نوع من الببغاوية..
إلا أن هذا الرأي يشهد لضعفه الواقع ويخالف الحقيقة الشرعية؛ إذ يقول تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} [القمر:17].
وليس أسهل من القرآن في الحفظ ولا أبلغ في النفوس ولا أوقع أثرا. ولذا فإن أسلافنا الصالحين ينصحون به و يشيرون إلى تعليم أولادهم القرآن الكريم وتحفيظهم إياه حتى تتقوم به ألسنتهم وتسمو أرواحهم وتخشع به قلوبهم ويترسخ الإيمان في نفوسهم.
وقد لاحظت أثر القرآن في نفوس الناشئات عليه حتى ظهر ذلك في سلوكهم مع الوالدين والمعلمات والصديقات، بل وجدتهن أكثر استقراراً نفسياً وأحسن إيجابية من غيرهن، كما يحسن ربط الناشئ في أول تمييزه بالمسجد إذا كان ذكرا؛ ليتعلم حسن السمت ويجد الصحبة الصالحة والقدوة الحسنة.
ثالثاً: تعميق الإيمان بصفات الله تعالى:
يزداد جانب المراقبة لله سبحانه وتعالى باستشعار أن الله سبحانه وتعالى يسمعنا ويرانا ويعلم سرنا ونجوانا ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وبإشعار الناشئ أن الله لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وأنه محيط بالأشياء كلها؛ لأنها تحت قدرته، لا يمكن لشيء منها الخروج عن إرادته.
ويمكن باستخدام الأدلة البديهية الفطرية للإقناع، مثل الاستدلال على وجود شيء غير مرئي بوجود دلائل مرئية أو حسية عليه، ومثل أن إعادة الشيء أسهل من إيجاده لأول مرة، ودلالة الصنعة على الصانع والأثر على المؤثر[2].
ويمكن استخدام الحقائق والمكتشفات العلمية الحديثة للإقناع وإيجاد الكتب التي تكشف عن حقائق علمية أوحيت إلى رسولنا – صلى الله عليه وسلم – قبل أربعة عشر قرناً ما كان للإنسان أن يكتشفها وما كان للعلم أن يكشفها قبل هذه العصور، مثل كتاب (العلم يدعو للإيمان) الذي ألفه (كريس موريسون) رئيس أكاديمية العلوم، كذلك كتب وأشرطة الإعجاز العلمي للشيخ (عبد المجيد الزنداني).
إذن المبدأ التربوي الذي نستخلصه: إذا أردنا أن نربي الإيمان القوي يجب أن تكون التربية أولاً بالعلم والتبصير بالأدلة العلمية، لا مجرد التلقينات فحسب..
ولله في كل تحريكة
وتسكينة أبدا شاهد
وفي كل شئ له آية
تدل على أنه واحد
ولو لم يكن شاهد على خلق الله ووجوده إلا هذا الإنسان بعجائب تركيبته {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
رابعاً: تكوين عاطفة إيمانية قوية دافعة إلى السلوك:
من أهم هذه العواطف في هذا الميدان: عاطفة الحب وعاطفة الخوف إذ إنهما من أكبر الدوافع و الحوافز التي يمكن استخدامها في عمل الخيرات وتنفيذ المأمورات وترك الشرور والمنهيات، يقول الدكتور (الكسيس كارل) عن أثر هاتين العاطفتين في السلوك: [وليس سوى عاطفتين قادرتين على البناء، هما عاطفة الحب وعاطفة الخوف، فالحب وحده هو الذي يملك القدرة على نسف الأسوار التي تتحصن أثرتنا من خلفها، وفي وسعه أن يلهب فينا الحماس ويجعلنا نسير مبتهجين في طريق التضحية الأليم؛ لأن التضحية أمر لابد منه للسمو بالحياة، فحب الصغير لأمه هو الذي يدفعه إلى حب الاستقامة تبعاً لأمرها، والمؤمن بدينه يخضع لأشق النظم الخلقية من أجل حبه لربه)[3].
ولكن كيف نستطيع تكوين عاطفة الحب عند الأطفال؟
هناك وسائل، منها:
1. بيان حاجة الطفل الدائمة إلى الله، على أساس أن الأمور والأرزاق بيده تعالى، ويوضع نصب عينيه قول الله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي كلكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.." الحديث[4].
وهذا يؤصِّل الالتجاء إلى الله وقت الشدة خاصة.
ولهذا فهو يخاف سطوته ويخاف عقابه وسخطه؛ بحيث يدعوه في وقت حاجته فلا يستجيب له، وهكذا يجمع في قلبه حب الله ورجاءه وخوفه {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا..} [الأنبياء:90].
2. من أعظم أساليب التربية وأعمقها في النفوس: الجمع بين الترغيب والترهيب {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ} [الحجر:49-50].
ولذلك لَمّا شب بين الناشئة، بل والرجال، على الجمع بين هذين الأمرين؛ تكونت لديهم رقابة ذاتية لأنفسهم، ومهما خلو بأنفسهم فإنهم لا يرونها خالية، حدَّث أنس بن مالك قال: سمعت عمر بن الخطاب وقد دخل حائطاً، فسمعته يقول ـ وبيني وبينه جدار ـ: عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، بخ.. بخ.. والله لتتقين الله يا ابن الخطاب أو ليعذبنك.
خامساً: غرس حب النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفس الناشئ:
ففي شمائل الرسول – صلى الله عليه وسلم – وجوانب سيرته صور دقيقة تدل على مزيد حرص الرسول على التحبب للناس، ومنها أنه "كان يمر بالصبيان فيسلم عليهم، ويلاطفهم ويمازحهم وكذلك كان مع أصحابه كان إذا لقيه أحد من أصحابه فقام قام معه فلم ينصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف عنه وإذا لقيه أحد من أصحابه فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده منها حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده". وعُلم من تحببه إلى ضعاف الناس أنه كانت تستوقفه الجارية في الطريق وتحدثه فما ينصرف حتى تكون هي التي تنصرف.
"وكان لا يقول لشيء لا، فإذا سُئل فأراد أن يفعل قال: نعم، وإن لم يرد أن يفعل سكت".
كما كان يخدم نفسه، ولهذا كان الرجل يأتي النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو لا يطيقه فما ينصرف حتى يكون رسول الله أحب إليه من كل أحد، فهذا عمرو بن العاص يحدِّث عن نفسه "..لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم مني" فلما رآه وتعامل معه وعرف حسن خلقه قال: "وما كان أحد أحب إلىَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت، لأني لم أكن أملأ عيني منه".
فإذا قرأ الناشئ سيرته وعلم حرصه – صلى الله عليه وسلم – على هداية الناس وعلم شفاعته لهم، وعلم أن صلاحه وفلاحه و نجاحه مربوط باتِّباعه؛ استحيا أن يخالفه، وتكوّن لديه شعور بتأنيب الضمير عند معصيته.
قال صلى الله عليه وسلم: "من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنّة مالا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر" (رواه مسلم).
وعن أنس رضي الله عنه مرفوعاً: "... ولو طلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها (يعني خمارها) على رأسها خير من الدنيا وما فيها" (رواه البخاري ومسلم).
فما العيش إلا ذاك لا عيش عزة
وسعدى وليلى ولا أم سلمى
وذلك فضل الله يؤتيه من يشا
ويرجى لعبد قارع الباب لزما