في العربية -تحديد- (فنِ البيان) بابٌ بإسم : تقديمُ مَا حَقُّه التأخير.
سأدخل في الغرض من هذه المقالة من غير إسهاب :
الأصل في ترتيب مفردات الجُمَل الكلامية : (الفعل ثم الفاعل ثم المفعول) مثل: شكرَ سعيدٌ محمداَ ، حدَّثْتُكَ (حدَّث : فعل /تُ : ضمير في محل فاعل /الكاف (ــكَ): ضميرٌ يمثِّل المفعولَ به .
و لا تُخِلُّ العربُ بهذا التسلسلِ الكلاميِ إلا عند إرادةِ غرَضٍ بلاغيٍ خاصٍ.
فتًقَدِّم مثلا المفعول به عن موقعه الثالثِ من الجُمْلةِ (لأن : الفعل أولا ، ثم الفاعل ثانياً ، ثم المفعول به ثالثاً) فتقول :
*النَّحوَ ذاكرتُ:
تريدُ أن تقول في هذا المثال : ذاكرتُ ماَّدةَ النحوِ فقط دون ما عداها. فهو حصرٌ لنطاقِ الفعل هنا و هي "المذاكرة" بأنها في "مادة النحو" فقط دون غيرها من المواد ، و قَصْرٌ لنطاقِ الفعل في كتاب النحو فقط ، يعني اقتصر في المذاكرة على مادة النحو دون سواها.
لاحظ أنك : لو أردتَ معنى القصْرِ و الحَصْرِ في هذا المثال بشكل مفصَّل من غير اللجوء إلى الاسلوب البلاغي فإنك ستقول : "ذاكرتُ النحوَ دونَ غيره من المواد " أو "ذاكرتُ النحو فقط".
ستلاحظ أن مفردات الجملة زادت ، مع أن التعبيرين (في المثال البلاغي ، و في المثال الخالي من البلاغة) أدَّيا نفس الغرض تقريباً.
فقط : الفرق في القدرة البلاغية و اختصار الكلام.
بل هو زيادة في معنى الحصر و القصر على ما لو كان الكلام بالتفصيل و اقترن بصيغ الحصر و القصر الطبيعية مثل (دون غيره ، دون ما سواه ، فقط) كما في الشرح أعلاه.
و لما كان القرءان قد نزل بلغة العرب الفصحاء البلغاء ، فإنه قد اشتمل على كل فنون العرب اللسانية ، فأتى بالعجب ، فكان من أفصح الكتب و أبلغها على الإطلاق. فهو نزل (بلسانٍ عربي مبين)
الهدفُ -هنا- من هذا المقال هو : قول المولى تبارك و تعالى في سورة الفاتحة : (إياكَ نعبُدُ ، و إياك نستعينُ). التسلسل الطبيعي : "نعبُدك دون ما سواك " ، "نستعين بك دون ما سواك".
(إياكَ نعبُدُ ، و إياك نستعينُ) : نعبُدك وحدك دون غيرك ، و نستعين بك وحدك دون غيرك.
فيها حصرٌ و قصرٌ للعبادة و الاستعانة بأنها لله و بالله دون غيره من الخلق.
فلو أنه قال : نعبدك ، و نستعين بك. فإنه تعبيرٌ لا يحمل معنى المنع من عبادة غيره و من الإستعانة بغيره سبحانه و تعالى ]مع أن المنع واردٌ من طريق نصوصٍ أخرى، فقط نتكلم على هتين الجملتين من السورة[
و لما كانت (إياكَ نعبُدُ ، و إياك نستعينُ) تعني الدين كله ، و تعني الروح و الجسد في الخطاب ، ألَّفَ في شرحها العلماء الكتب الكثيرة ، و من ذلك (مدارج السالكين في منازل إياك نعبدُ و إياك نستعين) لابن القيم.
و بهذه المناسبة أذكر قصةً طريفة و معبِّرة جداً –للأسف بحثتُ عنها في النت ليتم توثقيها لكم ، و لكني لم أجدها- حدثتْ لشيخ المفسرين ابن جرير الطبري. "صاحب كتاب التفسير" الذي اعتمد عليه ابن كثير في تفسيره كثيرا كثيرا. و يكاد يكون مختصرا له.
ذكروا أنه ألف كتابه العظيم "التفسير" ، و كان فوق أربعين مجلداَ -تقريباً- فأراد أن يساعده أحد الوزراء في نسخه إلى نسخ متعددة لأنه لا يستطيع أن يمول النَّسْخَ لضعف إمكانياته المالية ، فقرر أن يرحل إلى أحد الوزراء عبر البحر ، و قد حمل التفسير معه فوق السفينة ، فعرفه أحدُ العامَّة الصُّلحاءِ من الرُّكَّاب . فسأله : أ أنت ابن جرير الطبري ؟ فقال : نعم ، قال : أ أنت المُفسِّر الشهير ؟ قال نعم . قال فإلى أين أنت ذاهب ؟ ، فحدثه عن سبب رحلته ، فأراد العاميُ الصالحُ أن يُعلِّم هذا المفسر الكبيرَ تفسيراً و بُعْداً آخر من أبعاد التفسير العملي ، فقال له : و ماذا قلتَ في قول الله تعالى : (إياك نعبدُ و إياك نستعين)؟ فأطرق ابن جرير الطبري رأسه ، و سكتْ ، ثم طلب من القبطان أن ينزل من السفينة و يترك الرحلة. و يتمثَّل –عملياً- بـ (إياك نستعين). و رجع. فسخر الله له من نسخ تفسيره و انتشر بين الخلق و كتب الله له القبول فيه ، و لا يزال العلماء ينهلون منه و يختصرونه و يقتبسون منه إلى اللحظة.
و في خصوص : (إياك نستعين) : كان بعضُ السلف لا يستعين بأحد حتى و لو كان على راحلته و سقط سوطه أو شيء من أشيائه إلى الأرض فإنه ينزل و يأخذه (إياك نستعين). و منهم أبو ذر الغفاري رضي الله عنه و أرضاه ، فقد كان يعاتبه الناس على أنه يقوم بكل شئونه بنفسه فيرد عليهم بقوله : (أوصاني خليلي صلى الله عليه و اله و سلم أن لا أسأل الناس شيئاً) و هو خلق الصابرين و سلوك العصاميين.
و الإستعانة و الإستغاثة عملان بدنيان و قلبيان . و دخول (الإلف و السين و التاء –أستعين ، أستغيث - ) على الفعل الأصلي لغرض الطلب. يعني : طلب العون و طلب الغوث. و الفرق بينهما أن :
الإستعانة : طلب العون من غير لهفة و ضائقة.
الإستغاثة : طلب العون مع لهفة و ضائقة .
و منه قول الله تعالى عن المؤمنين في غزوة بدر (إذ تستغيثون ربكم ) .
و منه دعاء الكرب المشهور : (يا حّيُّ يا قَيُّومُ برحمَتِكَ أستغيث)
و لاحظ هذا الدعاء الأنيق فإنه يحمل نفس الغرض البلاغي : (برحمتك أستغيث) .. قدم الجار و المجرور الواقعان موقع المفعول به ليفيد الحصر و القصر. أي: أطلب الغوث من رحمتك دون رحمة عبادك ، فأنت المغيث الحقيقي و ما سواك فغوثه قاصرٌ و معونته محدودة . لأنك ذو الرحمة الواسعة و ما عداك فذو رحمةٍ محدودة و ناقصة.
لهذا كان هذا الدعاء من أنجح الأدعية للمكروب ، و من أنفعها في التنفيس عن الملهوف.
دعوةٌ من كريم منكم تكفيني عن التعقيب أو الشكر .
اللهم اكتب لي بها أجراً ، و اعطني بها خيرَ ما أؤمل و أكفني بها شر ما أخاف و أحاذر و كل من قرأها فانتفع أو بلغها فنفع و كل المسلمين ... آمين