نهى الاسم
اليأس والإيمان عدوان لا يجتمعان العنوان
أمراض القلوب الموضوع
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
الحقيقة أن النفس تجزع من المرض وتهابه، ولا يخفى عليكم أننا جميعاً مختلفون في تقبل الأمور سواء من الناحية الدينية أو النفسية، ومع تراجع التربية الدينية الصحيحة وترغيب النفس في التقرب إلى الله يجعل حياة الفرد فارغة جوفاء وذات لون باهت ومهما حاولنا أن نتعبد وأن نصبح متدينين لا ينفع هذا؛ لأن النفس من الداخل جوفاء.
وضعيفو النفوس لا يستطيعون تقبل مثل هذه الأمور ببساطة، بل إن هناك من الأشخاص من يكون مرضه تنبيها له على ما فاته حتى يستعيد بذلك قدرا كبيرا من الإيمان ولكن قد يكون ذلك بعد فوات الأوان.
إن مقدرتنا على تقبل مصائبنا ترتبط ارتباطا شرطياً بعمق ورسخ الدين فينا، وكيف أننا مهما حدث لنا لا نجزع ولا نيأس ولا نقنط من رحمة الله، بل إنني في قرارة نفسي أرى أن اليأس والإيمان عدوان لا يجتمعان مع بعضهما أبداً مهما حدث، والإنسان عندما يصيبه المرض قد يفقد إيمانه وييأس من رحمة الله ويرى الظلام وقد حل على عينيه وتسوء حالته النفسية بالدرجة التي تجعل حالته المرضية تتجه للأسوأ.
ولن تجد كثيراً من الناس يرضون بأن تحدثهم عن ثواب هذا المرض وما يفعله الألم من محو للسيئات.
سيدي:
إنني وعن عمق تجربة أقول لك: إننا يجب أن نربى أولادنا على الدين والإيمان.. نربيهم على الصدق والإخلاص، فيرثون الصبر موردا لهم عند نضوب الموارد الأخرى ليعينهم على تقبل الصعب وتحمل المشاق. بل إنني أشعر بأنني على وشك طلب المرض من الله عله يخفف عنى أوجاعي؛ حتى تهدأ نفسي وتسكن.
السؤال
الأستاذ مسعود صبري المستشار
الرد
أختي الفاضلة:
أحيي فيك هذه الروح الوثابة، وهذا العقل الناضح والإدراك الصادق، ومحاولة الغوص في أعماق النفس البشرية برؤية تحليلية، فتلك نعم من الله لك فراعها و نمها واسقها من ماء الشرع والكون ما يجعلها أشجارا وارفة وظلالا حانية على نفس وغيرك؛ طلبا للثواب من رب العباد.
كما أني أثنى على ما قلته من أثر الإيمان في تقبل المرض وكيفية التعامل معه، وضرورة تربية أبنائنا عليه، تحصينا لهم من شرور النفس والحياة.
ومع كون استشاراتك ذات طابع فلسفي إلى حد ما، لكن دعينا نقرأ الإشكالية عند بعض الناس بشكل يسير، حتى تكون الصورة واضحة وجلية، وللإنسان أن يتخير بعد ذلك ما يشاء، لما وهبه الله تعالى من حرية الاختيار.
أظن أن المشكلة الأساسية عند المسلمين في النظر إلى المرض، أن الحديث عن المرض أخذ منحنا دينيا صرفا، وهنا– في ظني، وأستغفر الله إن كنت مخطئا- تكون المشكلة، فإن غياب البعد الإنساني في قراءة الأحداث يحدث فجوة، فالمرض ليس شيئا دينيا في المقام الأول، بل هو شيء بشري، يحدث للمسلم والكافر، للطائع والعاصي، للكبير والصغير، للرجل والمرأة، للشاب والفتاة، للعالم والجاهل، للرئيس والمرؤوس، للأبيض والأسود.
فالمرض لا يقتصر على زمان دون زمان، ولا مكان دون مكان، إنما ارتباطه ببني آدم أينما حل وارتحل، نعرف هذا مع عدم إغفالنا للتأثيرات المكانية والزمانية لبيئة المرض، وهذا يعني أن كل الناس يمرضون مؤمنهم وكافرهم، كل ذلك في إطار القدر الغالب على البشر باختلاف ألوانهم وألسنهم ومعاشهم ومعادهم، وهذا يعني أن المرض شيء فطري بشري لا ملة له ولا دين، فأن يكون المرض سببا في ضعف الإيمان فهذا من الخطأ المحض، فإنا لم نؤمن بالله واشترطنا عليه أن يعافينا مما يبتلي به الخلق كلهم!
ولكن الإسلام ليعالج النفس البشرية، فقد أعطى لها أدوات لمعالجة المرض وتعامل النفس معها.
وفي مجال التعامل مع المرض جاء الأمر بالتداوي، وجعله واجبا شرعيا، يأثم المرء بترك نفسه للهلاك، كما أخرج الإمام أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تداووا عباد الله فإن الله لا يضع داء إلا وضع له دواء غير داء واحد الهرم". كما أمر بالحفاظ على النفس، وجعل من المقاصد الكبرى للإسلام الحفاظ على النفس، والمقصود به هنا الجسد.
ولكنه في ذات الوقت لم ينظر للمرض مؤثرا على الجسد فحسب، بل هو مؤثر على النفس والروح أيضا، ولهذا جعل الله تعالى الشفاء بيده وحده، وفرق بين التداوي والشفاء، فحكى الله تعالى عن إبراهيم عليه السلام قوله
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (الشعراء: 78-80).
ولأجل أن تصير نفس المؤمن عالية جعل المرض من الابتلاء الذي يجب الصبر عليه، ووعد من صبر بالثواب الجزيل، وكأن هذه خطة دفاعية لرفع الروح، إذ الارتباط بين الروح والجسد لا ينفك، وأن هزيمة النفس تعني تمرض الجسد، فكان الصبر على المرض وقاية من تدهور الصحة، وتحقيقا للعبودية، وعودة لله تعالى، فيتناول العبد الدواء ويطلب من الله الشفاء.
إن هذه منظومة رائعة في إدراك فلسفة المرض، فهي لا تتغافل الطبيعة الطينية للإنسان، وهي في ذات الوقت تربطه برب الكون، ومسبب الأسباب، فيكون الإيمان عاملا زائدا وفارقا بين المسلم وغيره، فإن كان كلاهما يتداوى، فيبقى عند المؤمن حصن يمنعه من كره الحياة والضجر من الابتلاء، ويرفعه عند ربه، فيجعل الصبر على المرض الذي قد يفعله كل أحد قربة لله سبحانه وتعالى، فيجازى عليه مع كونه أمرا إنسانيا في ذاته.
وإن كانت قاعدة الأسباب مشتركة بين البشر، فإن الطب يقول: إن هناك حالات تجاوزات الأسباب, خاصة في حياة المسلمين، فبالقراءة العلمية في بعض الحالات يقال: هذا لا يمكن أن يعيش، ولكنه يعيش، إذ الأمر لله تعالى، والذي خلق الأسباب قادر أن يوقف مفعولها بالقدرة المطلقة، والمشيئة الفاعلة، فهو سبحانه: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (البقرة:117).
وهو تعالى يعرف عباده بذاته، فيقول لهم
إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل:40)، ولهذا ففي المرض لله معاملتان: معاملة عدل ترتبط بالأسباب، وهذه لمن ربط نفسه بالأسباب يتساوى فيه جميع البشر، وهناك معاملة فضل، وهذه لمن ربط نفسه برب الأسباب وإن أخذ بالأسباب.
إن الإيمان ليس اعتقادا فحسب، ولكنه قوة محركة لمقادير الأمور البشرية، ولكن المشكلة فيمن يتهم الإيمان بعدم التحريك أنهم ما فهموا الإيمان حقا، وأنهم وصموا به أناسا هم أبعد ما يكونون عنه، فحين يكون الإنسان مؤمنا صادقا تتصاغر في عينه ما يتعالى في عيون الناس، ويتساهل في فكره ما يصعب عند الناس، ويقدِّر في نفسه ما يغيب عن فهوم الناس، وأس الإيمان أن يكون حقا موصولا بالرحمن، فمن قطع الحبل الذي بينه وبين ربه، فهو مؤمن ادعاء، وإن كان مسلما حكما.
إننا في حاجة إلى مراجعة لمفهوم الإيمان حتى يكون قوة محركة في أفعالنا وسلوكنا وعقائدنا، لأن المؤمن لا يعرف الانهزام مطلقا، كيف وهو يرتبط بالعزيز الذي لا يذل من والاه، وهو مع القوي الذي لا يُهزم من رجاه، وهو مع المتين الذي يصبِّر من ناداه، فكم من الحقائق الإيمانية تاهت في عصر العولمة وبحر الظلمات المادية، ولكنها مكشوفة للواصلين، بادية للمتقين، محققة في نفوس الصديقين، ومن هنا نفهم قول الحسن البصري: "من يعطني رغيفا من حلال أداوي به أربعين رغيفا".
فمحاولة قراءة المرض بمنأى عن شقها الإنساني والإيماني معا، معناه أننا سنخطئ القراءة، وبدلا من الاعتراف بهزيمة النفس والرضوخ للفتور الإنساني، فالأولى أن نحمل مشعل الإيمان ليضيء لنا جنبات حياتنا، فنسير في أرض الله بنور الله، وهنا نفهم من قول الله معناه :" أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" (الأنعام: 122).
وليس من الحكمة والصواب، فضلا أن يكون له نصيب من الإيمان أن يطلب العبد من ربه الابتلاء، فهذا يناقض طبيعة البشر، وهو ظلم للنفس، والله لا يحب الظالمين، فبميزان الشرع ندرك أن نحفظ أنفسنا ولا نظلمها، وأن نسأل الله المعافاة في الدنيا والآخرة، فإن كان قدره نافذا في الابتلاء، فنسأله الصبر والرفع، فأولئك هم المؤمنون حقا، وأولئك هم أولو الألباب.
وفي دائرة المرض نحن بحاجة إلى مراجعة الأخذ بالأسباب، فكما يحكي "باولو كووليو" في كتابه
مكتوب) أن أحد التلامذة قال لشيخه: لقد كنت في مأزق ولم يساعدني الله. فقال: إنه كان يريد أن يساعدك، ولكنه كان ينتظر منك الأخذ بالأسباب.
أتمنى أن تكون بهذه الإشارات السريعة وربما المبعثرة شيئا ينفع به أولو العقول والألباب في تفهم مراد الله من ابتلاء عباده بالمرض وغيره، عسى أن نصحح شيئا من خطئنا في علاقتنا مع ربنا.