اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة مسز داني
انقل اخي الكريم ,,ثم علق أو اشرح بعض النقاط ووضحها بأمثلة
أعتقد هكذا مسموح ,,
(سأفعل أختي الكريمة)
ماشاء الله قلمك جميل,,,متابعة لكن فعلا التوقيت غير جيد.
( لا أدري و الله ما اقول ... أما التوقيت فصدقت التوقيت غير مناسب )
لذا أضف عليه كلما سنحت الفرصة ليبقى متجدد
و يتسنى لبقية الأخوة قراءته
( سيكون إن شاء الله )
هل تخصص قريب من ابداع قلمك ؟
( حقيقةً لم أفهم)
|
أخر عهدي بهذا الكتاب العظيم قبل 13 سنة تقريبا مذ كان عمري 23 سنة ..
جئتُ اليوم لأقتطف لكم بعضا من رياحينه ، فتملكني و الله العجب ، و اقشعر بدني من هذا الساحر بروعة بيانه ، الأخَّاذِ بترانيمِ أنفاسه و روحه على حروفه.
فأنقل ما لا يحتاج بعده إلى غثاء أمثالي :
ملاحظة : من اراد أن يستفيد و يستمتع في ان واحد ؛ فليحضر قلبه ، و يقرأ ما سيأتي من غير انشغال و بتأنٍ و حضور...ثم أكاد أجزم أنك عزيزي القارئ ستعيش لحظات ربما لم تعشها من قبل. فقط اسمح لروحك و عينك أن يسبحا في هذا البحر العذب.
متى تستوي النعمة والبلية في قلب المرء؟ الجواب : عندما يكون راضيا عن الله و بالله . ، و ذلك لوجوه :
قال العلامة ابن القيم:
( ......أحدها : أنه مفوض . والمفوض راض بكل ما اختاره له من فوض إليه . ولا سيما إذا علم كمال حكمته ورحمته ، ولطفه وحسن اختياره له .
الثاني : أنه جازم بأنه لا تبديل لكلمات الله ، ولا راد لحكمه . وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن . فهو يعلم أن كلا من البلية والنعمة بقضاء سابق ، وقدر حتم .
الثالث : أنه عبد محض . والعبد المحض لا يسخط جريان أحكام سيده المشفق البار الناصح المحسن . بل يتلقاها كلها بالرضا به وعنه .
الرابع : أنه محب . والمحب الصادق : من رضي بما يعامله به حبيبه .
الخامس : أنه جاهل بعواقب الأمور . وسيده أعلم بمصلحته وبما ينفعه .
السابع : أنه مسلم . والمسلم من قد سلم نفسه لله . ولم يعترض عليه في جريان أحكامه عليه . ولم يسخط ذلك .
الثامن : أنه عارف بربه . حسن الظن به . لا يتهمه فيما يجريه عليه من أقضيته وأقداره . فحسن ظنه به يوجب له استواء الحالات عنده ، ورضاه بما يختاره له سيده سبحانه .
التاسع : أنه يعلم أن حظه من المقدور ما يتلقاه به من رضا وسخط . فلا بد له منه . فإن رضي فله الرضا ، وإن سخط فله السخط .
العاشر : علمه بأنه إذا رضي انقلب في حقه نعمة ومنحة ، وخف عليه حمله ، وأعين عليه . وإذا سخطه تضاعف عليه ثقله وكله ، ولم يزدد إلا شدة . فلو أن السخط يجدي عليه شيئا لكان له فيه راحة أنفع له من الرضا به .
ونكتة المسألة : إيمانه بأن قضاء الرب تعالى خير له ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده ، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرا له . إن أصابته سراء شكر . فكان خيرا له . وإن أصابته ضراء صبر ، فكان خيرا له . وليس ذلك إلا للمؤمن .
الحادي عشر : أن يعلم أن تمام عبوديته في جريان ما يكرهه من الأحكام عليه . ولو لم يجر عليه منها إلا ما يحب لكان أبعد شيء عن عبودية ربه . فلا تتم له عبوديته - من الصبر ، والتوكل ، والرضا ، والتضرع ، والافتقار ، والذل ، والخضوع ، وغيرها - إلا بجريان القدر له بما يكرهه . وليس الشأن في الرضا بالقضاء الملازم للطبيعة . إنما الشأن في القضاء المؤلم المنافر للطبع .
الثاني عشر : أن يعلم أن رضاه عن ربه سبحانه وتعالى في جميع الحالات يثمر رضا ربه عنه ، فإذا رضي عنه بالقليل من الرزق : رضي ربه عنه بالقليل من العمل . وإذا رضي عنه في جميع الحالات واستوت عنده ، وجده أسرع شيء إلى رضاه إذا ترضاه وتملقه .
الثالث عشر : أن يعلم أن أعظم راحته ، وسروره ونعيمه : في الرضا عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات . فإن الرضا باب الله الأعظم ، ومستراح العارفين ، وجنة الدنيا . فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه . وأن لا يستبدل بغيره منه .
الرابع عشر : أن السخط باب الهم والغم والحزن ، وشتات القلب ، وكسف البال ، وسوء الحال ، والظن بالله خلاف ما هو أهله . والرضا يخلصه من ذلك كله ويفتح له باب جنة الدنيا قبل جنة الآخرة .
الخامس عشر : أن الرضا يوجب له الطمأنينة ، وبرد القلب ، وسكونه وقراره . والسخط يوجب اضطراب قلبه ، وريبته وانزعاجه ، وعدم قراره .
السادس عشر : أن الرضا ينزل عليه السكينة التي لا أنفع له منها . ومتى نزلت عليه السكينة : استقام . وصلحت أحواله ، وصلح باله . والسخط يبعده منها بحسب قلته وكثرته . وإذا ترحلت عنه السكينة ترحل عنه السرور والأمن والدعة والراحة ، وطيب العيش . فمن أعظم نعم الله على عبده : تنزل السكينة عليه . ومن أعظم أسبابها : الرضا عنه في جميع الحالات .
السابع عشر : أن الرضا يفتح له باب السلامة . فيجعل قلبه سليما نقيا من الغش والدغل والغل . ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم . كذلك وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا . وكلما كان العبد أشد رضا كان قلبه أسلم . فالخبث والدغل والغش : قرين السخط . وسلامة القلب وبره ونصحه : قرين الرضا . وكذلك الحسد : هو من ثمرات السخط . وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا .
الثامن عشر : أن السخط يوجب تلون العبد ، وعدم ثباته مع الله . فإنه لا يرضى إلا بما يلائم طبعه ونفسه . والمقادير تجري دائما بما يلائمه وبما لا يلائمه . وكلما جرى عليه منها ما لا يلائمه أسخطه . فلا تثبت له قدم على العبودية . فإذا رضي عن ربه في جميع الحالات ، استقرت قدمه في مقام العبودية ، فلا يزيل التلون عن العبد شيء مثل الرضا .
التاسع عشر : أن السخط يفتح عليه باب الشك في الله ، وقضائه وقدره وحكمته وعلمه . فقل أن يسلم الساخط من شك يداخل قلبه ويتغلغل فيه ، وإن كان لا يشعر به . فلو فتش نفسه غاية التفتيش لوجد يقينه معلولا مدخولا . فإن الرضا واليقين أخوان مصطحبان . والشك والسخط قرينان . وهذا معنى الحديث الذي في الترمذي - أو غيره إن استطعت أن تعمل بالرضا مع اليقين فافعل . فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره النفس خيرا كثيرا . .
العشرون : أن الرضا بالمقدور من سعادة ابن آدم ، وسخطه من شقاوته ، كما في المسند و الترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سعادة ابن آدم : استخارة الله عز وجل . ومن سعادة ابن آدم : رضاه بما قضى الله . ومن شقوة ابن آدم : سخطه بما قضى الله . ومن شقاوة ابن آدم ترك استخارة الله [ ص: 202 ] فالرضا بالقضاء من أسباب السعادة . والتسخط على القضاء من أسباب الشقاوة .
الحادي والعشرون : أن الرضا يوجب له أن لا يأسى على ما فاته ، ولا يفرح بما آتاه . وذلك من أفضل الإيمان .
أما عدم أساه على الفائت : فظاهر . وأما عدم فرحه بما آتاه : فلأنه يعلم أن المصيبة فيه مكتوبة من قبل حصوله . فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبة منتظرة ولا بد ؟
الثاني والعشرون : أن من ملأ قلبه من الرضا بالقدر : ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة . وفرغ قلبه لمحبته ، والإنابة إليه ، والتوكل عليه . ومن فاته حظه من الرضا : امتلأ قلبه بضد ذلك . واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه .
فالرضا يفرغ القلب لله ، والسخط يفرغ القلب من الله .
الثالث والعشرون : أن الرضا يثمر الشكر ، الذي هو من أعلى مقامات الإيمان ، بل هو حقيقة الإيمان . والسخط يثمر ضده . وهو كفر النعم . وربما أثمر له كفر المنعم . فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات : أوجب له ذلك شكره . فيكون من الراضين الشاكرين . وإذا فاته الرضا : كان من الساخطين . وسلك سبيل الكافرين .
الرابع والعشرون : أن الرضا ينفي عنه آفات الحرص والكلب على الدنيا ، وذلك رأس كل خطيئة ، وأصل كل بلية . وأساس كل رزية . فرضاه عن ربه في جميع الحالات : ينفي عنه مادة هذه الآفات .
الخامس والعشرون : أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة . فهناك يصطاده . ولا سيما إذا استحكم سخطه . فإنه يقول ما لا يرضي الرب . ويفعل ما لا يرضيه . وينوي ما لا يرضيه . ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم يحزن القلب . وتدمع العين . ولا نقول إلا ما يرضي الرب . فإن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر .
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : أنه لا يقول في مثل هذا المقام - الذي يسخطه أكثر الناس . فيتكلمون بما لا يرضي الله . ويفعلون ما لا يرضيه - إلا ما يرضي ربه تبارك وتعالى . ولهذا لما مات ابن الفضيل بن عياض رؤي في الجنازة ضاحكا . [ ص: 202 ] فقيل له : أتضحك وقد مات ابنك ؟ فقال : إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه .
فأنكرت طائفة هذه المقالة على الفضيل . وقالوا : رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه . وأخبر أن القلب يحزن ، والعين تدمع . وهو في أعلى مقامات الرضا . فكيف يعد هذا من مناقب الفضيل ؟
والتحقيق : أن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع لتكميل جميع المراتب ، من الرضا عن الله ، والبكاء رحمة للصبي . فكان له مقام الرضا ، ومقام الرحمة ورقة القلب . و الفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضا ومقام الرحمة . فلم يجتمع له الأمران والناس في ذلك على أربع مراتب .
أحدها : من اجتمع له الرضا بالقضاء ورحمة الطفل . فدمعت عيناه رحمة والقلب راض .
الثاني : من غيبه الرضا عن الرحمة . فلم يتسع للأمرين . بل غيبه أحدهما عن الآخر .
الثالث : من غيبته الرحمة والرقة عن الرضا فلم يشهده ، بل فني عن الرضا .
الرابع : من لا رضا عنده ولا رحمة . وإنما يكون حزنه لفوات حظه من الميت . وهذا حال أكثر الخلق . فلا إحسان . ولا رضا عن الرحمن . والله المستعان .
فالأول في أعلى مراتب الرضا . والثاني دونه . والثالث دون الثاني . والرابع هو الساخط .
السادس والعشرون : أن الرضا هو اختيار ما اختاره الله لعبده . والسخط كراهة ما اختاره الله له ، وهذا نوع محادة . فلا يتخلص منه إلا بالرضا عن الله في جميع الحالات .
السابع والعشرون : أن الرضا يخرج الهوى من القلب . فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه . أعني المراد الذي يحبه ربه ويرضاه . فلا يجتمع الرضا واتباع الهوى في القلب أبدا ، وإن كان معه شعبة من هذا وشعبة من هذا ، فهو للغالب عليه منهما .
الثامن والعشرون : أن الرضا عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضا الله عنه - كما تقدم بيانه في الرضا به - فإن الجزاء من جنس العمل . وفي أثر إسرائيلي أن موسى صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل : ما يدني من رضاه ؟ فقال : إن رضاي في رضاك بقضائي .
الثلاثون : أن الراضي متلق أوامر ربه - الدينية والقدرية - بالانشراح والتسليم ، وطيب النفس ، والاستسلام . والساخط يتلقاها بضد ذلك إلا ما وافق طبعه . وإرادته منها .
وقد بينا أن الرضا بذلك لا ينفعه ولا يثاب عليه . فإنه لم يرض به لكون الله قدره وقضاه وأمر به . وإنما رضي به لموافقته هواه وطبعه . فهو إنما رضي لنفسه وعن نفسه . لا بربه ، ولا عن ربه .
الحادي والثلاثون : أن المخالفات كلها أصلها من عدم الرضا . والطاعات كلها أصلها من الرضا . وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف صفات نفسه ، وما يتولد عنها من الطاعات والمعاصي .
الثاني والثلاثون : أن عدم الرضا يفتح باب البدعة ، والرضا يغلق عنه ذلك الباب . ولو تأملت بدع الروافض ، والنواصب ، والخوارج . لرأيتها ناشئة من عدم الرضا بالحكم الكوني ، أو الديني ، أو كليهما .
الثالث والثلاثون : أن الرضا معقد نظام الدين ظاهره وباطنه . فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع :
فتنقسم قسمين : دينية ، وكونية . وهي مأمورات ، ومنهيات ، ومباحات ، ونعم ملذة ، وبلايا مؤلمة .
فإذا استعمل العبد الرضا في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام ، وفاز بالقدح المعلى .
الرابع والثلاثون : أن الرضا يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته . فإن السخط عليه مخاصمة له فيما لم يرض به العبد . وأصل مخاصمة إبليس لربه : من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية . فلو رضي لم يمسخ من الحقيقة الملكية إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية .
الخامس والثلاثون : أن جميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله ، وحكمته ، وملكه . [ ص: 205 ] فهو موجب أسمائه وصفاته . فمن لم يرض بما رضي به ربه ، لم يرض بأسمائه وصفاته . فلم يرض به ربا .
السادس والثلاثون : أن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه . لا يخلو : إما أن يكون عقوبة على الذنب . فهو دواء لمرض . لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى به المرض إلى الهلاك . أو يكون سببا لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه . فالمكروه ينقطع ويتلاشى . وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع . فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضا عن ربه في كل ما يقتضيه له ويقدره .
السابع والثلاثون : أن حكم الرب تعالى ماض في عبده ، وقضاؤه عدل فيه . كما في الحديث ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور .
وقوله : عدل في قضاؤك ، يعم قضاء الذنب ، وقضاء أثره وعقوبته . فإن الأمرين من قضائه عز وجل . وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب ، وفي قضائه بعقوبته .
أما عدله في العقوبة : فظاهر . وأما عدله في قضائه بالذنب : فلأن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه . وإعراض قلبه عنه . فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه ، ونقص إخلاصه : استحق أن يضرب بهذه العقوبة . لأن قلوب الغافلين معدن الذنوب . والعقوبات واردة عليها من كل جهة . وإلا فمع كمال الإخلاص والذكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى وذكره ، يستحيل صدور الذنب . كما قال تعالى كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين .
فإن قلت : قضاؤه على عبده بإعراضه عنه ، ونسيانه إياه ، وعدم إخلاصه : عقوبة على ماذا ؟
[ ص: 206 ] قلت : هذا طبع النفس وشأنها ، فهو سبحانه إذا لم يرد الخير بعبده خلى بينه وبين نفسه وطبعه وهواه . وذلك يقتضي أثرها من الغفلة والنسيان ، وعدم الإخلاص واتباع الهوى . وهذه الأسباب تقتضي آثارها من الآلام ، وفوات الخيرات واللذات . كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وآثارها .
فإن قلت : فهلا خلقه على غير تلك الصفة ؟
قلت : هذا سؤال فاسد ، ومضمونه : هلا خلقه ملكا لا إنسانا .
فإن قلت : فهلا أعطاه التوفيق الذي يتخلص به من شر نفسه ، وظلمة طبعه ؟
قلت : مضمون هذا السؤال : هلا سوى بين جميع خلقه ؟ ولم خلق المتضادات والمختلفات ؟ وهذا من أفسد الأسئلة . وقد تقدم بيان اقتضاء حكمته وربوبيته وملكه لخلق ذلك .
الثامن والثلاثون : أن عدم الرضا إما أن يكون لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده . وإما لإصابة ما يكرهه ويسخطه . فإذا تيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه . وما أصابه لم يكن ليخطئه : فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره .
التاسع والثلاثون : أن الرضا من أعمال القلوب ، نظير الجهاد من أعمال الجوارح . فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان . قال أبو الدرداء ذروة سنام الإيمان : الصبر للحكم ، والرضا بالقدر .
الأربعون : أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم : إنما نشأت من عدم الرضا . فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا ، من تفضيل آدم وتكريمه ، ولا بحكمه الديني ، من أمره بالسجود لآدم ، وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة . حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى . ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضا .
الحادي والأربعون : أن الراضي واقف مع اختيار الله له . معرض عن اختياره لنفسه . وهذا من قوة معرفته بربه تعالى ، ومعرفته بنفسه .
فقال يوسف : لكني لا أكره طول البقاء .
فقال الثوري : ولم تكره الموت ؟
قال : لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا .
فقيل لوهيب : أي شيء تقول أنت ؟
فقال : أنا لا أختار شيئا ، أحب ذلك إلي أحبه إلى الله .
فقبل الثوري بين عينيه . وقال : روحانية ورب الكعبة .
فهذا حال عبد قد استوت عنده حالة الحياة والموت . وقف مع اختيار الله له منها . وقد كان وهيب - رحمه الله - له المقام العالي من الرضا وغيره .
الثاني والأربعون : أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء ، وابتلاءه إياه عافية . قال سفيان الثوري : منعه عطاء . وذلك : أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم . وإنما نظر في خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر .
وهذا كما قال . فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له ، ساءه ذلك القضاء أو سره . فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء . وإن كان في صورة المنع . ونعمة . وإن كانت في صورة محنة . وبلاؤه عافية . وإن كان في صورة بلية . ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل . وكان ملائما لطبعه . ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة ، والبلاء رحمة . وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية . وتلذذ بالفقر أكثر من لذته بالغنى . وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة .
وهذه كانت حال السلف .
فالعاقل الراضي : من يعد البلاء عافية ، والمنع نعمة ، والفقر غنى.
وأوحى الله إلى بعض أنبيائه إذا رأيت الفقر مقبلا ، فقل : مرحبا بشعار الصالحين . وإذا رأيت الغنى مقبلا . فقل : ذنب عجلت عقوبته .
[ ص: 208 ] فالراضي : هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه ، أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه ، كما قال بعض العارفين : يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب . وقد قال تعالى : وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وقد قال بعض العارفين : ارض عن الله في جميع ما يفعله بك . فإنه ما منعك إلا ليعطيك . ولا ابتلاك إلا ليعافيك . ولا أمرضك إلا ليشفيك . ولا أماتك إلا ليحييك . فإياك أن تفارق الرضا عنه طرفة عين . فتسقط من عينه .
الثالث والأربعون : أن يعلم أنه سبحانه هو الأول قبل كل شيء ، والآخر بعد كل شيء ، والمظهر لكل شيء ، والمالك لكل شيء ، وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار . وليس للعبد أن يختار عليه ، وليس لأحد معه اختيار . ولا يشرك في حكمه أحدا . والعبد لم يكن شيئا مذكورا . فهو سبحانه الذي اختار وجوده . واختار أن يكون كما قدره له وقضاه : من عافية وبلاء ، وغنى وفقر ، وعز وذل ، ونباهة وخمول ، فكما تفرد سبحانه بالخلق ، تفرد بالاختيار والتدبير - وليس للعبد شيء من ذلك - فإن الأمر كله لله . وقد قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس لك من الأمر شيء فإذا تيقن العبد أن الأمر كله لله ، وليس له من الأمر قليل ولا كثير . لم يكن له معول - بعد ذلك - غير الرضا بمواقع الأقدار . وما يجري به من ربه الاختيار .
الخامس والأربعون : أن العبد إذا رضي به وعنه في جميع الحالات : لم يتخير عليه المسائل . وأغناه رضاه بما يقسمه له ويقدره ويفعله به عن ذلك . وجعل ذكره في محل سؤاله . بل يكون من سؤاله له الإعانة على ذكره ، وبلوغ رضاه . فهذا يعطى أفضل ما يعطاه سائل . كما جاء في الحديث من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي [ ص: 209 ] السائلين . فإن السائلين سألوه . فأعطاهم الفضل الذي سألوه . والراضون رضوا عنه فأعطاهم رضاه عنهم ، ولا يمنع الرضا سؤاله أسباب الرضا ، بل أصحابه ملحون في سؤاله ذلك .
السادس والأربعون : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يندب إلى أعلى المقامات . فإن عجز العبد عنه : حط إلى المقام الوسط ، كما قال : اعبد الله كأنك تراه فهذا مقام المراقبة الجامع لمقامات الإسلام والإيمان والإحسان . ثم قال : فإن لم تكن تراه فإنه يراك فحطه عند العجز عن المقام الأول إلى المقام الثاني ، وهو العلم باطلاع الله عليه ورؤيته له ، ومشاهدته لعبده في الملأ والخلاء ، وكذا الحديث الآخر : إن استطعت أن تعمل لله بالرضا مع اليقين فافعل . فإن لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا فرفعه إلى أعلى المقامات . ثم رده إلى أوسطها إن لم يستطع الأعلى . فالأول : مقام الإحسان . والذي حطه إليه : مقام الإيمان . وليس دون ذلك إلا مقام الخسران .
السابع والأربعون : أنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الراضين بمر القضاء بالحكم والعلم والفقه ، والقرب من درجة النبوة . كما في حديث الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : ما أنتم ؟ فقالوا : مؤمنون . فقال : ما علامة إيمانكم ؟ فقالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بمر القضاء . والصدق في مواطن اللقاء ، وترك الشماتة بالأعداء . فقال : حكماء علماء . كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء .
الثامن والأربعون : أن الرضا آخذ بزمام مقامات الدين كلها . وهو روحها [ ص: 210 ] وحياتها . فإنه روح التوكل وحقيقته ، وروح اليقين ، وروح المحبة ، وصحة المحب ، ودليل صدق المحبة ، وروح الشكر ودليله. )