رد : هذا اقسي وافظع ما حدث في حياتي
لا أريد أن أنكأ جراحك ولكن أنا متأكدة أنها لم تجف حتى تنكأ و أحيانا تخف آلامنا عندما نرى آلاماً مشابهه لها أو نقرأ بعض كلمات تصف ما نشعر به.. وإليك هذه القصة.. عن أخت فقدت أخوها في حادث.. ونسختها من موقعها كما كتبتها
*موعد معها*
(قبل غروبك كان نورك يطغى على أقمار دونك وعندما رحلت لاح لنا بصيص من شعاع وأمل وتنافسٌ على لقب بديل عثمان أو يظنون أن لك بدائل يا مهجة القلب زعموا!
ما أصعب أن تدوس على مشاعرك المثقلة بالهم ,, وتولي ظهرك غير آبه بقلبك الذي ينزف وإلى أجل غير مسمى ,
يبادرني اتصاله في ظهر يوم متعب فأخرج في جذل هاربة من ضجيج الطالبات ومن حر شمس لاترحم ,
افتح الباب المجاور له , فيأتيني صوت الشيخ في وصف دقيق لما أعده الله من الحور العين للمتقين في الجنة .
- أووه يا عثمان هذه هي المرة العاشرة التي تسمعني فيها هذا الشريط , يقاطعني بشغف :
- أريد أن أجاهد , تتراءى لي صورٌ كثيرة بلون الدم وأشلاء ممزقة فأردف بخوف :
- ففيهما فجاهد .
- تزداد سرعة السيارة ويداه تقبضان على المقود أكثر فأكثر ..
عثمان كان يذوي كشمعة قاربت الفناء , , كان يتألم ويحترق وكنا نستنير بإحتراقه ولا نحس بألمه أو همه , صمته وحزنه وكلماته النابعة من كهف عميق .. رسالة الشوق التي أهداها لي في عيد فطره الأخير .. زيارته لمقبرة الأموات وسؤاله أخي الأكبر عما يتوجب قوله هناك.
- ماذا دهاك يا عثمان يا أخي الحبيب , أهناك أمر تخفيه عن الجميع أنا أخوك الكبير فافتح لي قلبك وبث لي ألمك .. وسأزيحه عنك وبكل ما أملك .
- لا شيء مطلقاً
- حسناً يا عزيزي أريد أن أخطب لك فتاة !
- لا أرغب بالزواج , إني أطمح بالحور العين
- حسناً لا بد أن تتزوج هنا وبعدها تنعم بالحور العين هناك , ثم إن الزواج نصف الدين .. وأنت قد تجاوزت العقد الثاني بعامين .
- أبا عبد الله أشعر أن الدنيا بأكملها لا تسعني ... أريد أن أهرب منها .. أريد أن أجري إلى مكان فسيح وأصرخ بأعلى صوتي .
- عثمان يا أخي الغالي .. عليك أن تستعيذ بالله من وساوس الشيطان وأن تعتصم بالله في جميع أمورك فبيده سبحانه تفريج الهموم والكرب .
* * * * *
هاتفته في ساعة الصفر وعند اقتراب الموعد
- 10 دقائق وسأصل للمنزل انتظريني يا أختي .
- مع السلامة , قالها بعد صمت وبنبرة حزن .
الدقائق العشرة انقضت وانقضى مثلاها , وأبي يتصل على جواله بكل قلق الدنيا
قال لي أبي اكتبي له : (الوالد يبكي الآن اتصل عليه لطمأنته) , وقالت أمي اكتبي :
( أرجو الاتصال للأهمية القصوى) , ورسالة أخرى من عندي : (وووينك ؟ ) كلمة أرددها في كل لحظات الزمن .
قال العسكري لأبي : إن لله ما أخذ وله ما أعطى, ابشر يا أبا عثمان فإن ابنك مات وصوت القرآن يصدع من سيارته وقت الحادث .
وقال آخرون : كان يمشي بسرعة عادية وفجأة فقد السيطرة على سيارته وانقلبت به في الطريق الدائري . أي نبأ ذلك الذي تحمله ؟ أمات ابني ؟
صغيري الذي ترعرع في حجري ! في لحظة يغيبه المنون ؟
قبل أن يخرج كنتُ مستلقياً على سريري فجلس عند قدمي , وأخذ يقلم أظافره فقلت له : يا عثمان إن أظافرك قصيرة اصبر عليها , فتبسم واكمل تقليمها , وعندما استأذنني للخروج مع ابن عمته لإيصال مبلغ مالي لامرأة وتنفيذ وصية أمي رحمها الله , قلتُ له : اذهب , فودعني وذهب .
* * * * *
هالةٌ من حزن عميق تحيط بي وإكتئابٌ مُمَزِّق وشجونٌ لا نهاية له ..
قال لي بصمت في ثلاجة الموتى والدماء تنزف , أرأيتِ يا أختي. هذه هي ترجمة الضيقة التي كانت تعتريني عندما كنت أردد ( أنا ضايق ) هل حاولتِ أن تَسْتَشِفِّي عن الذي أعنيه , لا أظن ! كنتِ تصمتين بعدم حيلة , بينما كانت تقول لي أمي: (سنستدعي لك شيخاً ليقرأ عليك) لكنني لسببٍ ما كنتُ أغضب وأسألها معاتباً : ( لماذا تسخرين مني ؟), لكنني استسلمت آخراً .
بعد انصراف الشيخ قال لي متحمساً :
اتعرفين ! لقد أحسستُ حينها بشيءٍ واحد , فقلتُ له بلهفة : وبم شعرت ؟ فرد : بشيءٍ ما يتحرك هنا - وأشار إلى عنقه وتحسسهُ من أعلى لأسفل ...
* * * * *
منزلنا خاوي , وأرواحنا مهترئه , وقلبنا مثقوب , والدمع جف , ولم تبقى لنا سوى الذكريات ... أفتح درج مكتبه بيد مرتجفة فأرى نسخة من الخطة الدراسية التي كان يتأملها مطلع كل فصل دراسي ويسهب في خياله , وبجوارها ورقة خاصة بحذف مقرر كان ينوي أن يحذفه قبل انتهاء موعد الحذف , وجواز سفره الذي جهزه للسفر مع أمي إلى دولة ألمانيا لعلاج أخي الأصغر .
هربنا من طيفه لدولة أخرى ومازالت ذكراه تؤلمنا , ركبنا جميعاً في مقعده الذي اختاره لمرافقة أمي وما زال هناك متسع بحجمه .
عدنا وعادت لنا الذكرى كأشد ما يمكن , مصلاه يبكيه , ومكانه الخالي بيننا يشعرنا بالضيق , نجتمع جميعنا على سفرة الطعام فيقول أبي : أينقصنا أحد
فتقول أمي : ينقصنا عثمان ! , تلمع أعيننا ونزهد في الطعام ,
تختلس أمي النظر لغرفته , ثم تقف على أعتابها وتبكي أطلال ماضينا ,
وألسنٌ لا تعي تردد : أن عيشوا يومكم , واطووا صفحة الأمس ببساطة , أزيلوا كل ما يتعلق به وكأن شيئاً لم يكن .
* * * * *
جبالٌ تجثم على صدري والعبرة تخنقني , إني أرفع سريرك بيدي , و أدفع دولاب ملابسك , أزيح مكتب دروسك , وأنقل حاسبك الآلي .
وحديث لقاءٌ عابر يتردد في أذني و يتزامن مع نبضي .
- ما رأيك يا عثمان في ترتيب غرفتك الآن ؟
- لابأس يا أمي , جميلٌ جداً ولكنها في الحقيقة كانت أفضل .
- عندما تعتاد عليها ستشعر أنها الأفضل وتمنعني من تغيرها بعد فترة
إنها ذاكرتي التي تعذبني , تغيبـني للماضي ولعالم من الأحزان , أعود لنفسي , فأرفع حقيبتك التي جمعتُ فيها مستنداتك وأوراقك , أقربها من قلبي ,, أطوقها , ألثمها , وانثرها في حجري , ملفك الجامعي الأخضر , شهاداتك الموسومة بتفوق , وشجرة العائلة التي كنت ترسمها , دفاترك وبحوثك التي لم تسلمها لأساتذتك , جواز سفرك الذي لم يُختم , وشهادة وفاتك , كتيب صغير بين أغراضك يستوقفني (وصف الحور العين) ومطويات أخرى بذات العنوان .
أجفف دمعي وأعود لنفسي فأصارحها .. أساومها إما أن يعيش لك عثمان , أو يموت لنفسة , مُت هنيئاً يا ولدي وادخل الجنة من بابي . إن كان سؤلك الجنة وحورها فعسى أن تكون أُعطيتها ..
تهمني سعادتك أنت يا بني أكثر مما تهمني سعادتي الغائبة برحيلك .)
ومضة :
رأيته في المنام ,
كأعذب ما يكون الرجال ,
وبشرني بزواجه .
كتبته : إكرام حسن العمري
مكة المكرمة
(قصة واقعية , أحداثها حقيقية .. وبطلها هو أخي -رحمه الله- , وقد نشرت لي في مجلة حياة للفتيات لشهر ذو القعدة 1432هـ)
اللهم اغفر له وارحمه وأكرم نزله وأغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا اللهم إذا صرنا إلى ما صاروا إليه تحت الجنادل والتراب وحدنا
آمييين غفر الله لأخيها ولابنك وجميع موتى المسلمين حوادث السير كثيرة والله المستعان ..
اللهم احسن خاتمتنا ..
__________________
اللهم اجعلني من اوليائك الصالحين