الشيزوفرينيا
لاشك أن الغموض والأختلاطات والأجتهادات تلعب دوراً كبيراً في الأمراض النفسية والعقلية أكثر من أي نوع آخر ، ففي الوقت الذي يبحث علماء والطب وبايلوجيون عن القاعدة المادية لهذه الأمراض في الدماغ وفي الجينات وفي مختلف المجالات التي تعبر عنها هذه الأمراض في الجسم الأنساني عموماً والجهاز العصبي خصوصاً ، نجد أن هناك من لايزال يمارس علاج بعض هذه الأمراض على أساس من الأرواح الشريرة وتسليط ألالهة على المصابين لعناتهم عبر هذه الامراض وهو ما كان يتعامل به الأنسان القديم عبر الحضارات القديمة لعلاج ظواهر مختلفة من هذه الأمراض عند الأنسان والتي قد يكون للأيحاء دور كبير في علاجها .
هذا الغموض وعدم وجود حدود ظاهرة بين تشخيصات كل مرض على حدى كما هي الحال في الأمراض العضوية ، جعل الثقافة الطبية البسيطة تتعامل مع المعتقدات الشعبية فتعكس مسائل أبعد ما تكون عن الطب والاطباء والعلم والعلماء وأذا كانت هذه الحقيقة واضحة أمام كل المختصين في هذا المجال عن الأمراض النفسية والعقلية عموماً ألا إنها أكثر ما تظهر وبشكل لا يمكن تجاهله عند التعامل مع مرض الشيزوفرينيا ، هذا المصطلح الذي بدأ دخوله إلى الأستعمال الطبي في بداية هذا القرن فقط في حين كان القدماء يطلقون عليه أسماء مختلفة مثل الجنون والخبال والعتة والمنخوليا والسوداء وأخيراً الخرف المبكر ، وقد تداخل هذا المصطلح مع مصطلح أزدواج الشخصية وتعدد الشخصية التي تعني حالات تصدع الوعي أكثر مما تعني شيزوفرينيا علماً أن تعريفات المرض نفسها التي حاولت أن تميز طبيعته وحدوده وظواهره تعددت أيضاً وزادت المرض غموضاً لغوياً مقابل الغموض الأكلينيكي والنفسي الذي يعكسه يقول أحد العلماء من هو في هذا الصدد ( لقد حاول الكثيرون تعريف مرض الشيزوفرينيا ومن الطبيعي أن تقصر هذه التعاريف كلها عن التوصل إلى تعريف شامل محدد لهذه الحالة المرضية ما دام المرض غير واضح من حيث أسبابه وأعراضه ومسيرته ونتائجه ، وفي مثل هذه الحالة من عدم الوضوح فأن معظم التعاريف المعطاة لهذا المرض قد تركزت على الأعراض المرضية الأكثر ظهوراً في المرض وفي بعض الحالات أتسع التعريف ليصف العمليات النفسية التي تكمن وراء المريض ( ص23 فصام العقل ) .على أن الأجماع في هذا التعريف وتحليله يقود إلى صفتين أساسيتين هما أولاً : الأنقسام والتجزئة (شيزو) في المقومات المكونة للعقل ( فرينيا ) والشخصية وهي الفكر والعاطفة والسلوك ، ثانياً : فقدان التوازن في العمليات النفسية الداخلية . أما ما يصاحب المريض من هلوسات سمعية ولمسية ونقص في الأنتباه إلى العالم الخارجي والنقص في حب الأستطلاع وأضطراب الفكر مع وجود إرتباطات فكرية تعصى على الفهم …الخ كل هذه ظواهر المرض التي تعرض نفسها أمام الطبيب .
إن هذا التخبط في تعريف المرض وحدوده والذي بلغ أبعد مدى في أمريكا والأتحاد السوفيتي الذين أدخلوا فيه حتى قواعد السلوك الخارجة عن قواعد المجتمع بل وحتى أمراض مزاجية كالكآبة مثلاً قد قاد العلماء إلى توسيع مفهوم هذا المرض ليشمل حالات حدودية من الاضطراب الفكري والسلوكي ثم أخذت تتعدد المصطلحات الفرعية للشيزوفرينيا كالشيزوفرينيا النووية أو الشيزوفرينا الصافية ( وهي الشيزوفرينيا ألتي يتوفر فيها عامل وراثي ويبدأ المرض فيها في سن مبكرة وبصورة تدريجية غير متقطعة ، وعلى خلفية من الشخصية الشيزية شديدة الأنطواء والحساسية . ص25 ن م ).
وأخيراً وجد من العلماء من يدعي أن هناك أمراض عدة شيزوفرينية وليس مرضاً واحداً بعينه ثم وجد بعض العلماء لكل هذه الأختلاطات أنه ليس هناك شيء أسمه مرض شيزوفريني مطلقاً وكلها أعتبارات أجتماعية وبقدر تعدد الأجتهادات في تعريف الشيزوفرينيا وحدودها وظواهرها فقد تعددت الأجتهادات في تحديد أسباب المرض بين مرض وراثي أو بيئي أو مشاركة بينهما …الخ .
فهل يمكن الحديث عن هذا المرض بأعتباره مرضاً وراثياً حقاً أو أنه أبن البيئة فقط ؟ لقد بدأ توجه العلماء إلى البحث عن الأسباب الوراثية للمرض في الجينات وكان من أوائل العلماء الذين أهتموا بهذا الجانب هو مانفرد بلولر بن بلولر الذي كان قد عرف المرض إلى وجود مظاهر عدم الترابط في شخصية المريض أو كما سماه ( عدم ترابط أو تفكك الشخصية ) الذي يؤدي إلى تجزئتها إلى مكوناتها التي بتجمعها فيها بشكل غير متوافق هو الذي يجعل الشخصية شيزوفرينية ، لقد كان من رأي مانفرد بلولر ( أن الجينات المسببة للمرض ليست جينات مريضة في حد ذاتها وإنما بتجمعها بشكل معين وغير متوازن هو الذي يكون الحالة المرضية ، وذلك عن طريق أحداث حالة غير متوازنة من الشخصية تكون فيها عناصر الشخصية غير متوافقة وفي صراع مع بعضها البعض غير أن مانفرد وجد مكاناً للعوامل النفسية في تكوين المرض فكان من رأيه بأن الضغوط النفسية وخاصة تلك التي تنجم ةعن العلائق في مجال العائلة والأقارب لها أن تدفع بعدم توازن مقومات الشخصية إلى حالة الأنهيار الشيزوفريني (ص 27 ن م ) .
أن فرضية تفسير المرض على أساس وراثي بنيت لدى العلماء على أساس أن هناك جين واحد أو أكثر يرثها الاولاد عن الآباء والأقرباء تخلق أستعداداً لوجود المرض وقد يضهر هذا الاستعداد على شكل نقص في الشخصية أو أضطراب فكري أو خطأ في الجهاز العصبي الذاتي أو نقص في تكامل الخلايا وأندماجها أو توقف أو أنحراف في دور ما من عمليات الأستغلاب ( الميتابولزم ) في الدماغ ، وهكذا جرى البحث ويجري بعد أكتشاف خريطة الجينيوم البشري لتحديد مثل هذه الجينات الخاصة بمثل هذه الأمراض وليس هذا المرض وحده فقط ؟
أن خلاصة البحوث قد قادت العلماء إلى الخلاصة التدلية في تحديد سبب المرض
1-إن مرض الشيزوفرينيا مرض معقد ومتعدد الأنواع ومن غير المحتمل أن يكون هناك سبب واحد يكمن وراء جميع هذه الأنواع .
2-أن البيانات المتوفرة تشير إلى أن الوراثة تلعب دوراً هاماً في تكوين الأستعداد للأصابة بالمرض وأن من المشكوك فيه أن تكون هناك أي تجربة حياتية كافية لتكوين المرض في فرد لا يحما هذا الأستعداد الوراثي ، هذا ولم يعرف حتى الآن نهاية - ثمانينات القرن- على وجه التحديد لاطبيعة العامل الوراثي أو كيفية أنتقاله أو الطريقة التي يظهر عليه في الفرد المستلم له
3-ينظر إلى المحيط كعامل هام يساعد على أظهار الأستعداد الوراثي في المرض غي أنه لايكفي وحده لتكوين المرض بدون الأستعداد الوراثي . كما أنه لا توجد حتى الآن أية عوامل محيطية معينة مخصصة الفعل في تسبيب المرض الشيزوفريني ويبدو أن لكل مريض تجربته المحيطية الخاصة به والتي يتفاعل بها بطريقته الخاصة مع الستعداد الوراثي الذي يكمن فيه للأصابة بالمرض – ( ص 113 فصام العقل ) .
والآن كيف نستطيع أن نفهم حجم التعامل السببي بين الجينات والأمراض النفسية عموماً والشيزوفرينيا خصوصاً ؟
وكيف تمت الدراسات الأحصائية والتجريبية عليها ؟
لاشك أن خطورة الأمراض النفسية والعقلية لايقل أن لم نقل يزيد على خطورة الأمراض العضوية ولاشك أن الوراثة الجينية تلعب دوراً كبيراً في المجالين معاً . ومن الأحصائيات نعرف حجم هذه الخطورة حيث تقول أنه في بريطانيا مثلاً يدخل ما يقرب من …,.17 مريض إلى المستشفيات كل سنة لشتى الأمراض العقلية وما يقرب من …,16 آخرين للمعوقين عقلياً ، أي أن في المملكة المتحدة يوجد رجل واحد من كل أثني عشر رجلاً وأمرأة واحدة من كل ثماني نساء يذهبن إلى المستشفى في وقت ما من حياتهن ليعالجن من مرض عقلي نفسي أكثر واقعية ( ص 275 علم الحياء والأيدلوجيا والطبيعة البشرية ) وتقول المعلومات الطبية الأولية أن مرض الشيزوفرينيا مثلاً هو مرض عقلي بذل فيه من البحث الوراثي والبيوكيميائي أكثر مما بذل في أي مرض آخر ، وتقول المعلومات أنه بحث على أساس وجوده عن جين معين هو الذي يحدثه وراثياً ويكفي أن نقول أن 1% من سكان بريطانيا يعانون من الشيزوفرينيا وأن …,28 حالة أي 16% من حالات الأمراض العقلية ألتي أدخلت المستشفيات عام 1978 شخصت على أنها شيزوفرينيا أو مقارباتها ، وكذلك الحال في أمريكا والأتحاد السوفيتي ؟ وتقول الاحصائيات أيضاً أن عقار الكلوربرومازين الذي أدخل أستخدامه عام 1952 بالتحكم في مرض الشيزوفرينيا يقدر أنه أعطي لخمسين مليون فرد في العالم كله خلال الأعوام العشرة الأولى من أستخدامه وتقول نظرية وراثة الشيزوفرينيا أنه إذا كانت بيوكيميا المخ تتغير في الشيزوفرينيا فأنه لابد أن يمكن تحت هذا التغير البيوكيميائي نوع من الأستعداد الوراثي للمرض ، وعام 1981 زعم علماء النفس أنه يمكنهم الكشف عمن يحتمل إصابتهم بالشيزوفرينيا وهم في عمر ثلاثة سنوات هل أن المرض يظهر في عمر 53 سنة ؟ أي قبل أن يظهر المرض بخمسين عاماً ، ويقول علماء الهندسة الورثية أنه لو كانت هناك جينات تنتج منها الشيزوفرينيا فأن ثمة وسائل لأستئصال هذه الجينات من المجال الوراثي للأفراد المصابين ولوضع تشكلاتها السرية البديلة مكانهاى وهكذا يمنع ظهور المرض ، وهناك برامج بحث جدية تجري في معامل عديدة للعمل على تكديس جينات مرض الشيزوفرينيا ولعزل الجينات الشيزوفرينية وزراعتها على أن يدرس أمكان أستبدالها وتشير الدراسات التي طبقت على أحتمال وجود مريض آخر بأنفصام الشخصيات الشيزوفرينات بين أقرباء أحد المصابين بالمرض في المجتمعات الغربية كما يلي