عنوان الموضوع: تجاذبات الطبيعة البشرية والثقافة التلقائية
المقصود بالثقافة التلقائية هي مايتعلمه الإنسان من قيم وعادات ومواقف وأساليب وردود فعل من خلال بيئته الاجتماعية التي نشأ فيها منذ الولادة حتى يومه الراهن.
الإنسان يتجاذبه ويشكله أمرين مهمين، هما طبيعته البشرية التي لايمكن أن تكون أكبر من محدداتها كأن تكون خارقة للعادة، والعادات والثقافة العامة التي تشكل تصرفاته من خلال محطيه الاجتماعي.
يستطيع الإنسان أن يطور من طبيعته وردود فعله، من خلال مراقبة ذاته وسلوكياتها، واكتشاف الصحيح والخطأ منها، وبالتالي التطوير والتعديل لما هو أفضل، سواء من خلال اكتشافه لذلك بنفسه، أو مشاهدته لسلوكيات يقتبسها من بني البشر سواءً كانوا ممن حوله هو ممن هم أبعد مسافة عنه، ومهما يكن لايمكن أن يذهب بعيداً في تغيير جذري، لأنه مهما عدل من سلوكياته إلا أن له طبيعة محددة لايمكن له أن يتجاوزها كأنسان، وقد وصف ذلك المختصون في السلوك الإنساني سواء كانوا نفسيين أو فلاسفة أو مفكرين أو غيرهم وفوق هذا كله ماذكره القرآن عن طبيعتنا البشرية أو ماوصفَ ذلك عن طريق صحيح السنة، كمشاعر الفرح والحزن والغضب والحسد والغيرة والظلم وغير ذلك، ويصعب على أغلب بني البشر التخلص منها، إلا أن الميزة هو من يستطيع أن يقلل منها بأكبر قدر ممكن باستخدام الإيمان والوصايا الدينية وباستخدام العقل ومحاولة استخدام ميزان العدل، وفهم الطبيعة البشرية، وكلما تعمق المرء بذلك ودرس كلما وصل لمرحلة أعلى من الوعي وأقرب إلى السمو.
الثقافة الاجتماعية أو مايكتسبه المرء من عادات، هي من أكبر العوامل التي تشكل شخصيته ومفاهيمه ومواقفه وقيمه، حتى ليؤمن ويجزم أن الصح والخطأ منطلقٌ من ماورثه وكسبه، وهو لايتخيل ولا يفكر في العادة أن مايمارسه أو مايعتقده من الممكن أن يجانبه الصواب جملةً وتفصيلاً، وهذا مايؤكد لنا أن الثقافة أقوى من التعقل والتفكر والتساؤل والاستنتاج، سواءً كان ذلك على مستوى العقائد والإيمانيات، أو على مستوى العادات والتقاليد والتفاصيل والتعاملات المختلفة، فالمرء رهين بيئته مهما حاول التملص منها، وإن حاول وقاومها فقد يقاوم جزئيات مختلفة ويخضع لجزئيات أخرى وكثيرة.
هناك من حاول أن ينقلب على واقعه الاجتماعي وعاداته لأسباب إما أن تكون نفسية أو عقائدية، ويعتنق مذاهب مختلفة قد تكون في الغالب نقيضة لما نشأ عليه، لكن تلك النشأة تضل محفورة في أعماقه وتشكل تصرفاته وأحكامه، حتى وإن بدى لنا ظاهرياً أنه انقلب عليها، ذلك أن النشأة العميقة بل والتمسك في تلك المفاهيم والآراء والعادات قبل الانقلاب تبقى جذورها بل وأحياناً أغصانها ثابتة وراسخة رسوخ الجبال، وهذا مايؤكد مدى تشكيل الثقافة للمرء وتصوراته مهما حاول الابتعاد عنها.
من هنا يجب علينا قبل الهجوم أو الانتقاد لأي ثقافة أو مذهب أو دين أو عقيدة مهما كانت في أي بقعة من هذا العالم، أن ندرك أن مؤمنيها أو معتنقي تلك الأفكار أو المذاهب أو العادات لم تكن في أرادتهم بقدر ماهي متغلغلة في ذواتهم منذ ولادتهم وتتجذر كلما كبروا مع الضخ الاعلامي الثقافي المتداول أياً كان هذا الضخ عبر المنابر عبر الجسات عبر الصحافة عبر التعليم إلخ......، لذلك لا أرى أي وجه مقنع لانتقاد أناس أو بشر يعبدون هذا أو ذاك أو يؤمنون بتلك الطريقة أو تلك بحجة أنهم على ضلال ونحن على الهدى، وأسوأ من ذلك من يمعن في السب والقذف دون أن يدرك أن لا خيار حقيقي عقلاني لهؤلاء يميزون به الصح أو الخطأ، كما أنهم في الوقت ذاته قد يروننا على ظلال مبين، لأن مفهوم الحق لديهم هو مانشأوا عليه واعتادوه، وهذا مشاهد لكل من يتأمل أو يتجول في عالم الثقافات أو الأديان ويتعمق ويتأمل ويجالس ويخالط يدرك هذه الحقيقة، والله أعلم.