بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت فليكا لو تسمحي لي بمداخلة
لا أدري هل أشد على يدك لشجاعتك على مناقشة موضوع والديك (وهو شائك ومحرج بلا شك) والصبر على بعض الردود.. أم ألومك على عدم أخذ حذرك من الكتابة في شيء دقيق يكثر فيه الزلل و خصوصاً في منتدى يطالعه العاقل والجاهل والذي يفهم والذي لا يفهم – مع كامل الاحترام للجميع
أقول هذا لأنه كان في خاطري طرح شيء يماثل هذه الفكرة تماما في موضوع مستقل .. لكني تراجعت خوفا من أن يُساء فهمي .. فالعقوق منتشر ... ولا أريد أن يتخذ بعض العاقين أفكاري حجة بسوء فهمهم .. أو أكون ممن يفتي بغير علم ..
وفي نفس الوقت .. قد يكون هناك من يعانون الأمرين من تشابك الأمر عليهم في تلك المسألة .. مسألة بر الوالدين .. وضغوطات الوالدين وتعديهما على حقوق الولد .. هؤلاء يحتاجون من يوضح لهم .. من شخص فكر في تلك المسألة وسببت له قلقا وحيرة لا يعلم بها إلا الله حتى انتهى إلى حل وطابت به نفسه واطمأن .. وظن أنه عرف معنىً من معاني البر ( وليس معنى البر ) والتزمه الآن بطيبة نفس وسكينة .. بعد أن كان سابقا مثل شيء لا يمكن فهمه وصعب المنال! .. لذا فهو مجرد رأي يبحث عن التصويب .. ومجرد بلبلات في ظلمات النفس أنشرها هنا حتى أعرضها لشمس الآخرين ومشورتهم ومعونتهم .. هل هي خطأ؟ هل هي صواب؟ .. لو تركت لوحدي فلن أعرف .. لذا أضعها أمام عيونكم ..
أتوكل على الله وأطرح وجهة نظري راجيا من الله ألا تسبب قراءتها إلا زيادة في البر وإمعانا فيه .. .
كنت أفكر .. كيف يطلب الله من المسلم أن يبر والده المشرك؟
إذا أنت قابلت شخصا يسرق الناس اشمأزت نفسك واحتقرته .. إذا قابلت شخصا يظلمهم يضربهم يطغى عليهم كرهته وحقدت عليه .. إذا قابلت شخصا يعمل أي معصية .. كان في نفسك احتقار وانتقاص له بقدر تلك المعصية ..
هل تخفض جناح الذل من الرحمة لسارق؟ هل تتودد لزان ؟ هل تتلطف مع شارب خمر؟ ..
فكيف يريد منك الله .. أن تخفض جناح الذل من الرحمة لمن ارتكب أعظم جريمة وأعظم شر على وجه الأرض: الشرك بالله!
لا يوجد بعد الشرك ذنب .. خلاص .. الشرك هو الـ maximum في الذنوب .. ومع ذلك .. ومع ذلك .. عندما يصادف أن يكون هذا المشرك أحد والديك .. فالله يطلب منك أن تبره ..
حتى نفهم البر حق فهمه يجب أن نناقشه بالمثال المطلق: مثال الوالد المشرك ..
إذا كنت شخصا مسلما يحب الله وتغضب لأجله .. فمن المؤكد أنك ستغضب أمام أفعال شخص مشرك يسب الله .. ومن المستحيل أن تحبه .. بل الله ينهاك عن حبه .. الله يطالبك ببغضه .. أن تبغضه في الله ولله ..
لكن الله يطالبك ببر الوالد المشرك .. إذن: البر لا يتطلب الحب ..
يمكنك أن تبر والديك وأنت تبغضهما .. هذه أول نقطة حتى نصل لمعنى البر ..
كثير من المواعظ العصرية في البر تخلط بين المعنيين .. معنى الحب ومعنى البر .. لكن البر فوق الحب .. البر أمر رباني تفعله ضد مشاعرك .. سواء كنت تحب والديك أم تبغضهما .. يجب أن تبرهما .. ولا علاقة لمشاعرك بالبر .. لا علاقة بما يفعلونه تجاهك .. بظلمهما لك .. بعدم التزامها بحنان ولطف ومثاليات الأمومة والأبوة .. كل هذا يجب ألا يؤثر ببرك لهما .. بل قد يكون الأبوان قمة في العطف والحنان والقيام بواجبات الأبوة .. لكن نفسية الابن تشوبها الأخطاء وعقله فيه من المشاكل مما لا يجعله يفهم ذلك العطف على حقيقته .. لهذا يجب عزل مشاعر الابن تجاه الأبوين .. عزله عن البر ..
لأنك لا تطيع أبويك .. أنت (( تطيع الله )) في أبويك ..
أما الوعظيات .. فتقعد ساعة تتحدث عن حنان وعطف الأم والأب ومثاليات ليست موجودة في الواقع .. تحاول بناء البر على تلك الأشياء .. غلط .. فكثير ممن يستمع لتلك الموعظة قد لا يكون عرف لا الحنان ولا حسن المعاملة من أبويه .. أو أنه موجود تحت ذلك الحنان والرعاية وقام الأبوان بحقه على أكمل وجه لكنه يعجز عن فهم وإحساس ذلك ( فالنفوس تختلف بعضها يطلب القليل وبعضها يطلب المستحيلات والمثاليات) ..على كل حال .. عندما نربط ما يفعله الأبوان بالبر .. عندها قد يقع الابن في المغالطة التي تقول: بما أنهما لم يقوما بواجبهما, إذن لا أبرهما .. هذه هي المغالطة التي تقترفها تلك المواعظ بحسن نية .. عندما تبني البر على أخلاق نتوقعها في الأبوين .. لكنها لا تحصل في كل الحالات .. بل إننا لا نتوقع من إنسان فيه الصلاح والسوء أن ينقلب إلى ملاك طاهر حنون عطوف مثالي بمجرد أن يصير أبا أو أما .. ولا نتوقع في حال حصول تلك الملائكية أن الابن سيستشفها بعقله ... لكن هذا ما تلمح إليه المواعظ وكثير من الأدبيات التي تتحدث عن "الوالدية" ( سواء أبوة أم أمومة ) ..
تذكر أنه مهما كانت جرائم الأبوين فيك .. مهما ظلماك .. فإن كل جريمة في حقك لن تصل إلى قدر جريمة الشرك بالله .. ومع هذا يأمرك الله بالبر .. إذن البر منفصل تماما عن شخص هذين الوالدين .. عن أفعال هذين الوالدين .. عن مكانة هذين الوالدين في السلم الأخلاقي ..
هو متعلق بشيء واحد: طاعتهما في كل شيء إلا ما نهى الله عنه ..
الله هو الأول والآخر في المسألة وفي كل شيء .. في هذه المرة أمرك ببر والديك .. وكان يستطيع أن يأمرك ببر أي شخص آخر .. أخوك أو أختك .. فلان الفلاني في القرية الفلانية .. ابن عم جدتك إلخ .. لكنه أمرك ببر اللذان أنجباك ..
لماذا؟
لفائدة من؟
هل الله يريد أن يفيد الأبوين بتسخير الابن لهما؟ .. طيب لو كانا أبوين مشركين .. كيف يسخر الله لهما شخصا مسلما لكي يريحهما في الدنيا ويقوم بأوامرهما ويصرف عليهما إلخ .. الله لم يسخر المسلم لأخيه المسلم بتلك الصورة التي يدعو إليها البر .. فكيف يسخر مسلما لخدمة مشرك فقط لأنه صار والده؟ ..
كلا .. فائدة الأمر بالبر ليست للأبوين .. ربما هناك فائدة للأبوين وفائدة في الحفاظ على التلاحم وفائدة في بناء المجتمع إلخ ..
لكن فائدة البر الأعظم هي للابن نفسه ..
كيف؟...
بخلاصة: البنوة دَين ( بمعنى القرض )..
كونك ابنا .. فأنت مديون ..
الله يأمر المسلمين بأداء الدَّين .. يأمرهم بذلك فيفعلوا ليخلصهم منه .. إذا كان الشهيد يوقفه عن دخول الجنة دين! .. فكيف بالمسلم العادي؟ .. مع أن ذلك دين مادي .. نقود ..
فكيف إذا كان الدَّين في مادة جسدك .. وغذاءك .. وشهور حملك .. وآلام وضعك ..
كون دخول الإنسان للدنيا يتم عن طريق الولادة .. فهذا من سنن الله الكونية ..
وهذه الولادة تتطلب أبوين .. أيضا من سنن الله ..
لكن المسألة تنحصر في التالي: لو كان هذين الأبوين شخصان من غير الثقلين .. ( مثلا يولد الإنسان من تلاقح صخرة مع شجرة ) .. فلا دين عليك .. لأنك لا تكون مديونا للشجرة لما تأكل من ثمرها .. ولست مديونا للماعز لما تشرب من لبنها .. فهذه الشجرة والماعز لا يمكن أن يكونا دائنين .. سخرها الله لك .. لكن عندما يحملك إنسان .. ويغذيك إنسان .. ويتحمل آلام وجودك إنسان .. فأنت تكون مديونا له .. لأن هذا الإنسان يأخذ ويعطي .. ويتحمل تبعات أخذه وعطائه .. هذا الإنسان يمكن أن يكون دائنا لشخص آخر ..
وهكذا .. وجودك في الدنيا يفرض عليك مديونيتك لإنسانين آخرين .. وهذا من سنن الله ..
الآن .. نعلم من شرائع الإسلام أن الدَّين أمره عظيم وخطير .. وممكن أن يوقف شهيدا عن دخول الجنة .. وهذا من كمال عدله سبحانه .. فحتى يحفظ لك حقوقك فلا يتعدى عليها إخوانك من البشر .. وضع الحقوق في أقصى قيمة لها .. وساواها بين جميع البشر .. فعندما يصل إليك الأمر: يجب عليك تأدية الدَّين فهو شيء لا يمكن تخطيه .. فإن أخوك يسمع نفس الأمر ويدعوه ذلك لحفظ حقك أنت وأداء دينك أنت .. وهذا الأمر يصدق على الكل .. ويُطبق على الكل .. فالله صادق في أمره ونهيه .. لا يُقال لك: لن يُغفر لك ظلمك ضد آخرين أو ديونك بدون التحلل منهم .. ثم يُغفر بدون التحلل منهم .. وإن لم تتحلل منهم وأراد الله عدم تعذيبك .. فهو يعطي ويعطي ويعطي دائنيك حتى يفكك منهم! .. حتى يحللوك .. لاحظ أنه ( وهو رب الخلائق جميعهم المتصرف فيهم ) لا يرضى أن يغفر لك ظلمك لآخر بدون أن يعوض هذا الآخر .. لكن من منا يضمن أن يحصل على تلك الميزة؟ .. من منا يضمن أن تُتقبل صلاته التي يصليها؟ فكيف بمغفرة ظلم لآخرين دون التحلل منهم؟ .. بل يجب التحلل .. ويجب أداء الدَّين ..
إذن الدَّين أمره خطير خطير ..
لكن وجودك في الدنيا يتضمن أن تكون مديونا .. هذا شيء فرضه الله عليك كما فرض أن تكون إنسانا .. وفرض أن يكون لك عينين .. وفرض أن تكون لك شهوة تداريها وتراعيها .. وفرض أن يكون جسدك كذا وكذا .. ولأن هذا الدَّين ( دين البنوة) حصل دون اختيارك .. ليس كاقتراض النقود أو ظلم إنسان آخر .. بل دين مفروض كامتحان وابتلاء من الله .. جاء التشديد على التحلل منه ..
فكما الله سبحانه يريدك أن تقابله بدون أن يكون عليك دين مادي لشخص آخر .. فهو يريد منك أن تقابله بدون أن يكون لك دين لأبويك .. يريد أن يحررك من هذا الدَّين .. فجعله ثاني شيء قضى به .. بعد توحيده مباشرة ..
فإن كنت مثلا تخاف على شخص تحبه من أمر خطير .. فستشدد على تحذيره منه .. ولهذا كان التشديد في البر والتحذير من العقوق ..
هو أمر منفصل عن شخص والديك وتعاملهما تجاهك .. هو أمر مختص بك أنت .. بكينونتك بوجودك في هذه الدنيا .. كائنا ما كان أبواك .. لكن على كل حال .. كلما كان برك بهما أصعب .. كان أجرك أعظم وأكبر ..
فرق كبير بين من يبر أبوين حنونين عطوفين .. تجد النفس لبرهما يسرا وسهولة .. وبين من يبر أبوين قاسيين جافيين .. تغالب النفس ويصعب عليها برهما .. تماما كما هو الفرق بين يسعى للمسجد برجليه .. ومن يزحف إليه زحفا .. فرق في الأجر ..
هذا هو تحليلي لمعنى البر .. وهو كونه تحللا من دين البنوة .. لا أزعم أنه الحكمة .. فلا يقدر إنسان على الوصول لحكمة أوامر الله ونواهيه بعقله .. مهما حاول .. لا يزعم أحد مهما كتب المجلدات عن الصلاة وفوائدها أنه توصل لحكمتها ومعناها الذي أراده الله .. فالشرع سكت عن تلك الأشياء وعلينا تجاهها التسليم .. وهذا كان المفروض لولا أن الموضوع طرح للنقاش هنا .. لكن مثلا إن جاء شخص يناقشنا عن الصلاة قمنا نذكر له فوائدها .. لكن لا نزعم أنها الحكمة والمعنى الحقيقي .. إنما لنرجعه إلى التسليم بها والمحافظة عليها .. فمهما ناقشنا أمرا سكت عنه الشرع فإن عقولنا سيشوبها الخطأ وتعجز عن الوصول للمعاني الحقيقي للعبادات ..
وأرجو ألا يُبنى البر على هذا المعنى .. بل يُبنى على أنه أمر الله وكفى .. فالخطأ الذي وقعت فيه الوعظيات أنها بنت البر على حنان وعطف الأبوين .. صحيح أن الهدف منها الترغيب في البر .. لكن ستخرج حالات تناقض تلك المعادلة مما يتسبب بإلغاء البر! .. وكذلك هذا التحليل الذي ذكرته .. ليس لي برهان عليه .. لذا فإن بناء البر عليه قد يتسبب بخروج حالات أخرى منه .. مثل هذا الذي قاعد يحصل من تلاعب بالأرحام واستنساخات ومادري إيش .. لا يجب بناء العبادات على الحكم التي نستشفها بعقولنا .. لأننا أبدا لن نصل للحكمة والمعنى التي أرادها الله ..
لذا فإن تحليلي للبر بمعنى الدَّين هو مجرد إغلاق للباب الذي فتحته كون بعض الآباء والأمهات جفاة قساة لا يقومون بواجب الأبوة كما يجب (أو أن الابن ذو نفسية لا تجعله يحس بعطف والديه كما يجب) .. وأرجو من كل شخص قرأ هذا الكلام أن يصوبني إن وجد خطأ .. لأني بصراحة جاهل تماما وقبل كتابته كنت محتارا متخوفا .. لم أطرحه في موضوع مستقل حتى لا أتحمل مسؤوليته .. بل قد يرى البعض أن من الواجب عدم الخوض فيه من الأساس .. كونه أمرا لن نصل إليه بعقولنا .. وعليهم تبيان ذلك لي .. لأني بصراحة في حيرة وجهالة.. فما كان لي إلا طرحه أمامكم .. هذا ليس إخبارا للناس وإفتاء لهم .. هذا طرح لمكنونات نفسي أرجو منها التصويب .. يتنازعني شعوران متناقضان .. أن ما أقوله خطأ ولا يجب الحديث فيه .. أو أن هذا التورع نتاج الوسوسة وعدم الثقة فأمتنع عن إظهاره للناس وطلب رأيهم وتصحيحه فيظل يعبث في صدري ويفتنني زيادة ..
اللهم إني أعوذ بك أن أتكلم في دينك من غير علم ..
09-10-2017, 09:55 AM
بإنك ستصلحي ذلك الأمر دون نصح من أحد وثقي تماما الأيام كفيلة تدواي جرحك ...
ضوابط المشاركة
العرض العادي
