هل يصنع القانون ثقافة؟
هذا المقال كتبته بنفسي، ونُشرَ في موقع سعوديون في أمريكا، ويسعدني أن أنشره في هذا المنتدى العزيز، وأذكر ذلك لكي لايُظن أن كاتبه شخص آخر.
تتشكل ثقافة المجتمعات من عوامل مختلفة بحيث تتخذ شكلاً مميزاً لها دون سائر الثقافات الأخرى أو تتشارك مع بعضها في بعض المفاهيم والممارسات، ويبقى القانون أحد المؤثرات الكبيرة في تغيير بعض الممارسات الثقافية المتجذرة خصوصا حين يكون ذلك القانون فعّالاً بشكلٍ لا يسمح لأي فرد أن يتجاوزه مهما بلغ موقعه، وحين يلتزم المجتمع به فإنه بذلك يخلقُ نمطا ثقافيا جديدا، حتى لو كان مخالفاً لبعض المبادئ التي يظنها المجتمع شيئاً لا يمكن تغييره أو تجاوزه، إذ مع مرور الزمن تصبحُ هذه المبادئ شيئاً لا يمكنُ القفز عليها، وهكذا فإن القانون قادر على أن يقود ويخلق تصورات اجتماعية وينقلها من وضع إلى آخر.
ولكي نقرب الصورة، فإن من يرى تنظيم المرور والحركة في مدينة دبي يتملكه الذهول من سطوة النظام "القانون" على السائقين ومدى التزامهم به في القيادة والمسارات، وأي مخالفة مرورية غير مسؤولة من قبل السائق ستكون ملفتة لانتباه جميع السائقين وستسمع منهم عبارات الاستهجان والاستنكار لذلك السلوك إذ أنه غاية في التجاوز وعدم الاحترام، فالالتزام في النظام لم يعد خوفاً من الغرامة إنما أصبح سلوكاً ثقافيا متجذراً في تلك المدينة، فاحترام الآخرين وحقوقهم في القيادة هو سلوك أخلاقي، لذلك يتصرف السائق أثناء قيادته من خلال وعي ثقافي يفرض عليه احترام الأخرين وعدم التعدي على حقوقهم، فهو ينطلق من هذا المبدأ قبل أن ينظر إلى أن ذلك أمر نظامي أو قانوني يجب الالتزام به كي لا تكون المخالفة من نصيبه.
هذا يحدث في بلد خليجي يشارك أهله جيرانهم الخليجيين الثقافة والعرق نفسيهما بل والقبيلة أحياناً، فبينما تُرتكب أفظع المخالفات والتجاوزات المرورية في بعض الدول الخليجية المجاورة تجد الناس في الإمارات يتصرفون بتلقائية ثقافية ملؤها احترام حقوق الآخرين أثناء القيادة، ولم تنشأ هذه الثقافة أصلاً إلا لأن القانون قد أخضع الأفراد في البداية، ثم نشأ الجيل التالي فوجد الجميع ملتزما بالنظام وخاضعا له، فأصبحت هذه هي الثقافة التي يتعامل على إثرها الفرد ويمتعض من مخالفتها دون أن يعي بأن من أصّلها هو القانون الصارم.
قد يجادل أحدهم ويحاول أن يبرهن أن لوجود العنصر الأجنبي دوراً في نشر تلك الثقافة في دبي، والحقيقة تقول إن أغلبية أولئك الأجانب يرجعون إلى ثقافة بعيدة عن التنظيم وسطوة القانون، وثقافتهم لا تختلف إن لم تكن أحياناً أسوأً من ثقافة باقي دول الخليج، لكنهم انصهروا داخل هذا المجتمع الذي شكّله القانون ثم أصبحت ممارساتهم وتعاملاتهم ومواقفهم بناء على ثقافة المجتمع الإماراتي الجديدة.
هنا نستطيع أن نقول إن القانون يصنع وجه الثقافة ويصيّرها من شكل إلى آخر، إن جميع المجتمعات قابلة لأن تتنازل عن أجزاء كثيرة من ثقافتها وتصبح خلال سنوات قليلة ذات وجه ثقافي آخر، ولا يمكن أن يحرك عجلة تلك التغيرات والتحولات إلا تطبيق قانون يُفرَض على الجميع ولا ينهار تحت طرقات الرافضين والممانعين. إن القانون قادر على تغيير قناعات الأفراد وتوجهاتهم بل ومبادئهم مع مرور الزمن، ذلك أن المجتمعات قد تقاوم الفكرة الجديدة في البداية، ولكن لعوامل تفرض وجودها تنهار تلك المقاومات لتصبح تلك الفكرة واقعا لامناص منه، ومع مرور الزمن تصبح قيمة عليا يجب الدفاع عنها حتى تصل إلى أن من لا يعتنقها يصبح أنساناً سلبياً، وهكذا تتكون الأفكار والقناعات في المجتمعات بفعل القانون، فالثقافة لا تخلقها المجتمعات فقط ، إنما قد تُخلق لها فتتبناها دون وعي منها، فتنشأ بعض قيمها ومبادئها على أساسها.
__________________
ياصبحِ لاتِقبل !!
عط الليل من وقتك..
التعديل الأخير تم بواسطة Neat Man ; 14-05-2013 الساعة 10:53 AM