والمقصود: أن دوام الذكر لما كان سببًا لدوام المحبة، وكان الله سبحانه أحقَّ بكمال الحب والعبودية والتعظيم والإجلال؛ كان كثرةُ ذكره من أنفع ما للعبد، وكان عدوُّه حقًا هو الصَّاد له عن ذكر ربه عز وجل وعبوديته؛ ولهذا أمر الله سبحانه بكثرة ذكره في القرآن وجعله سببًا للفلاح، فقال تعالى: { وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (10) سورة الجمعة، وقال تعالى{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} (41) سورة الأحزاب، وقال تعالى: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} (9) سورة المنافقون، وقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ } (152) سورة البقرة
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سبق المفردون، قالوا: يا رسول الله! وما المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا».
وعند الترمذي: عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ألا أدلكم على خير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذَّهب والورق، وخيرٍ لكم من أن تَلقوا عدوَّكم، فتضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ذكر الله».
وهو في «الموطأ» موقوف على أبي الدرداء .
قال معاذ بن جبل: «ما عمل آدمي عملاً أنجى له من عذاب الله من ذكر الله».
وذكر رسوله صلى الله عليه وسلم تبع لذكره.
والمقصود: أن دوام الذكر سبب لدوام المحبة، فالذكر للقلب كالماء للزرع، بل كالماء للسمك لا حياة له إلا به .
وهو أنواع: ذكره بأسمائه وصفاته، والثناء عليه بها.
الثاني: تسبيحه وتحميده وتكبيره وتهليله وتمجيده، وهو الغالب من استعمال لفظ الذكر عند المتأخرين.
الثالث: ذِكْرهُ بأحكامه وأوامره ونواهيه، وهو ذِكْر العَالم، بل الأنواع الثلاثة هي ذكرهم لربهم.
ومن أفضل ذكره؛ ذكره بكلامه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} (124) سورة طـه ، فذكره هنا: كلامه الذي أنزله على رسوله، وقال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (28) سورة الرعد ، ومن ذكره سبحانه: دعاؤه واستغفاره والتضرع إليه، فهذه خمسة أنواع من الذِّكر.
الفائدة الرابعة والثلاثون: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم (سبب لمحبته للعبد)، فإنها إذا كانت سببًا لزيادة محبة المصلَّى عليه له، فكذلك هي سبب لمحبته هو للمصلي عليه.
الفائدة الخامسة والثلاثون: أنها سبب لهداية العبد وحياة قلبه، فإنه كلما أكثر الصلاة عليه وذكره؛ استولت محبتُه على قلبه، حتى لا يبقي في قلبه معارضة لشيء من أوامره، ولا شك في شيء مما جاء به، بل يصير ما جاء به مكتوبًا مسطورًا في قلبه، لا يزال يقرؤه على تعاقُب أحواله، ويقتبس الهدى والفلاحَ وأنواعَ العلوم منه، وكلما ازداد في ذلك بصيرة وقوة ومعرفة؛ ازدادت صلاتُه عليه صلى الله عليه وسلم.
ولهذا؛ كانت صلاة أهل العلم العارفين بسنته وهديه المتبعين له عليه خلافَ صلاة العوام عليه الذين حظهم منها إزعاجُ أعضائهم لها ورفع أصواتهم، وأما أتباعه العارفون بسنته، العالمون بما جاء به؛ فصلاتُهم عليه نوعٌ آخر، فكلما ازدادوا فيما جاء به معرفة، ازدادوا له محبة ومعرفة بحقيقة الصلاة المطلوبة له من الله.
وهكذا؛ ذكر الله سبحانه كلما كان العبدُ به أعرفَ وله أطوع، وإليه أحب، كان ذكرهُ غير ذكر الغافلين واللاهين، وهذا أمرٌ إنما يعلم بالخُبر لا بالخَبر، وفرق بين من يذكر صفات محبوبه الذي قد ملك حبُّه جميعَ قلبه، ويثني عليه [بها] ويُمجِّده بها، وبين من يذكرها إما إثارة وإما لفظًا، لا يدري ما معناه لا يُطابقُ فيه قلبُه لسانَه، كما أنه فرق بين بكاء النائحة وبكاء الثكلى، فذكرُه صلى الله عليه وسلم وذكرُ ما جاء به وحمد الله تعالى على إنعامه علينا ومنته بإرساله صلى الله عليه وسلم هو حياةٌ الوجود وروحُه، كما قيل:
وإذا أُخِل بذكره في مجلس -- فأُولئكَ الأمواتُ في الحيان
الفائدة السادسة والثلاثون: أنها سبب لعرض اسم المصلي عليه صلى الله عليه وسلم وذكره عنده، كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم: «إن صلاتكم معروضة علي».
وقوله: «إن الله وكل بقبري ملائكة يبلغوني عن أمتي السلام».
وكفى بالعبد نبلاً أن يذكر اسمه (بالخير) بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قيل في هذا المعنى:
ومن خّطّرَتْ منه ببالك خَطْرَةٌ -- حقيقٌ بأن يَسْمو وأنْ يتقدّما
وقال الآخر:
أهلاً بما لم أّكنْ أهْلاً لِموقِعِهِ -- قَوْلَ المُبشر بَعْدَ اليأسِ بالفّرّجِ
لَكَ البَشارَةُ فاخْلَعْ ما عَلَيْكَ فَقَدْ -- ذَكرتَ ثّمَّ على ما فيكَ مِنْ عِوَجِ
الفائدة السابعة والثلاثون: أنها سبب لتثبيت القدم على الصِّراط، والجواز عليه، لحديث عبد الرحمن بن سَمُرَة الذي رواه عنه سعيد بن المسيب في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم ، وفيه. «ورأيت رجلاً من أمتي يزحف على الصراط ويحبو أحيانًا ويتعلق أحيانًا، فجاءته صلاتُه عليَّ، فأقامته على قدميه وأنقذته».
رواه أبو موسى المديني وبنى عليه كتاب في «الترغيب والترهيب» (وقال: هذا حديث حسن جدًا).
الفائدة الثامنة والثلاثون: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم أداءٌ لأقلِّ القليل من حقّه، وشكر له على نعمته التي أنعم الله تعالى بما علينا، مع أن الذي يستحقه من ذلك لا يحصى علمًا ولا قدرةً ولا إرادةً، ولكن الله سبحانه – لكرمه – رضي من عباده باليسير من شكره، وأداء حقه.
الفائدة التاسعة والثلاثون: أنها متضمنة لذكر الله وشُكره، ومعرفة إنعامه على عبيده بإرساله، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد تضمَّنت صلاتُه عليه ذكر الله تعالى، وذكرَ رسوله، وسؤاله أن يجزيه بصلاته عليه ما هو أهلُه، كما عرفنا ربنا (تعالى) أسماءه وصفاته، وهدانا إلى طريق مرضاته، وعرفنا مالنا بعد الوصول إليه، والقدوم عليه، فهي متضمنة لكل الإيمان، بل هي متضمنة للإقرار بوجود الرَّبِّ المدعو (تعالى)، وعلمه وسمعه وقدرته وإرادته وصفاته وكلامه، وإرسال رسوله، وتصديقه في أخباره كلها، وكمال محبته، ولا ريب أن هذه هي أصول الإيمان، فالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم متضمنة لعلم العبد ذلك، وتصديقه (به)، ومحبته له، فكانت من أفضل الأعمال.
الفائدة الأربعون: أن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم من العبد هي دعاء،
ودعاء العبد وسؤاله من ربه (تعالى) نوعان:
أحدهما: سؤاله حوائجه ومهماته وما ينوبه في الليل والنهار، فهذا دعاء وسؤال، وإيثار لمحبوب العبد ومطلوبه.
والثاني: سؤاله أن يُثنَي على خليله وحبيبه صلى الله عليه وسلم ، ويزيد في تشريفه وتكريمه وإيثاره ذكرِه، ورفعه. ولا ريب أن الله تعالى يحب ذلك ورسوله يحبه صلى الله عليه وسلم ، فالمصلي عليه صلى الله عليه وسلم قد صرف سؤاله ورغبته وطلبه إلى محاب الله تعالى ورسوله، وآثر ذلك على طلبه حوائجه ومحابه هو، بل [كان] هذا المطلوب من أحب الأمور إليه وآثرها عنده، فقد آثر ما يحبه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم على ما يُحبُّه هو، فقد آثر الله ومحابّه على ما سواه، والجزاء من جنس العمل، فمن آثر الله على غيره؛ آثره الله على غيره، واعتبر هذا بما تجد النَّاس يعتمدونه عند ملوكهم ورؤسائهم إذا أرادوا التقرب إليهم والمنزلة عندهم، فإنهم يسألون المطاعَ أن يُنعِمَ على من يعلمونه أحب رعيته إليه، وكلما سألوه أن يزيد في حبائه وإكرامه وتشريفه؛ علت منزلتُهم عنده، وازداد قربُهم منه، وحظوتهم لديه؛ لأنهم يعلمون منه إرادةَ الإنعام والتشريف والتكريم لمحبوبه، فأحبُّهم إليه أشدُّهم له سؤالاً ورغبة أن يُتمَّ عليه إنعامَه وإحسانَه؛ هذا أمر مشاهد بالحسِّ، ولا تكون منزلة هؤلاء ومنزلة [من يسأل] المطاع حوائجه هو، وهو فارغ من سؤاله تشريف محبوبه والإنعام عليه واحدةً، فكيف بأعظم مُحبِّ وأجله لأكرم محبوب وأحقه بمحبة ربه له؟ ولو لم يكن من فوائد الصلاة عليه إلا هذا المطلوب وحده؛ لكفى المؤمن به شرفًا.