يتبع
المبحث الثاني
الأحاديث النبوية
وهذه سِتَّة أحاديث مِن كلام النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - تُبَيِّن لك عظمَ هذا الأمر، وتُحذِّرك من خَطَر مخالفته:
1- عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا يفرك مؤمنٌ مؤمنة، إنْ كَرِهَ منها خُلقًا، رَضِيَ منها آخر - أو قال: غيرَه))[7]، والفرك: هو البُغض بين الزوجين، ومعنى الحديث: لا يَنبغي للزوج أن يُبْغِض زوجتَه بغضًا يحمله على فراقها؛ لأنَّه إن وجد فيها خُلُقًا يكرهه، وجد فيها خُلُقًا آخرَ يرضاه منها، فعليه أن يغفرَ سيئها لحُسْنها، ويَتَغَاضَى عمَّا يكره لِمَا يحب منها.
وفي الحديثِ إخبارٌ بأنَّ المؤمنة لا يُتَصَوَّر فيها اجتماعُ كلِّ القبائح؛ بحيث يبغضها الزوجُ بغضًا كليًّا، ولا يَحْمَد فيها شيئًا أصلاً، بل فيها مِن الخصال الحميدة ما يَرضاه زوجُها، وفيه إشارة إلى أنَّه ينبغي للزوج أن يبحَث في زوجته عمَّا يُرْضِيه عنها، وألا يُنَقِّب عن المساوئ التي تحمله على كُرهها.
وفيه إشارةٌ أيضًا إلى أن الصَّاحب لا يوجد بدون عيْب، فإنْ أراد الشخص صاحبًا بريئًا من العيب بقِي بلا صاحِب، ولله دَرُّ القائل:
أُعَاتِبُ كُلَّ ذِي حَسَبٍ وَدِينٍ
وَلاَ أَرْضَى مُعَاتَبَةَ الرَّفِيقِ
وَأُغْمِضُ لِلصَّدِيقِ عَنِ المَسَاوِي
مَخَافَةَ أَنْ أَعِيشَ بِلاَ صَدِيقِ
2- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائِهم))[8].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ مَن كَمُل إيمانه هو من حَسُن خُلُقُه مع جميع الناس، ثم بيَّن أن خير الناس من كان خيرُه لزوجته خاصَّة، وذلك بأن يُعَامِلَها بالحسنى، ويصبر على أخلاقها، ويكُفَّ الأذى عنها، قال الحسنُ البصري: "حقيقة حُسن الخلق: بذْلُ المعروف، وكفُّ الأذى، وطلاقة الوجه"، وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - خيرَ الناس؛ ولهذا كان - صلَّى الله عليه وسلَّم - أحسنَ الناس معاشرةً لأزواجه، فإنه قد صحَّ عنه أنه قال: ((خيرُكم خيرُكم لأهله، وأنا خيرُكم لأهلي))[9].
وفي هذا الحديثِ يَحُثُّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الأزواجَ على حسن معاشرةِ زوجاتهم، وحُسن صحابتهنَّ، والتَّرفُّق بهن، وأنَّ مَن فعل هذا فهو مِن خير الناس، ومَن خالفه فهو شرُّ الناس، وقد كانتِ العرَب تقول: (مَن لا خير فيه لأهله، فلا خيرَ فيه للناس).
3- عن سَمُرة بن جُندب - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ المرأة خُلِقَت مِن ضلع، فإن أَقَمْتَها كَسَرْتَها، فَدارِها تَعِشْ بها))[10]، فالمرأة خُلِقَت من ضِلع، وفي رواية: ((مِن ضِلع أعوج))[11]؛ أي: إنَّ خَلْقَها فيه اعوجاج، وكذلك خُلُقُها، فلا يتهيأ لك الانتفاعُ بها إلا بالصبر على اعوجاج خُلُقِها، كما جاء في رواية مسلم: ((لن تستقيمَ لك على طريقة، فإنِ استمتعتَ بها استمتعتَ وبها عِوج))[12]، فإن أردتَ تقويمَها وإصلاحَها، فلن تستطيعَ إلى ذلك سبيلاً، إلا بطلاقها وكسْر جناحها، كما في رواية مسلم المتقدمة: ((وإن ذهبتَ تُقِيمها كسرتَها، وكَسْرُها طلاقها))، فلا يمكن العيشُ معها إلا بمداراتها؛ لذلك قال: ((فدَارِها تَعِش معها))، والمداراة: الملاطَفة والملاينة؛ أي: لاطِفْها ولايِنْها وجامِلْها، فبذلك تبلُغ مرادك منها مِن الاستمتاع، وحسن العِشْرة.
فهذا الحديثُ الشريف يحُثُّنا على مُجامَلَة النساء ومُلايَنَتِهِنَّ، والصبر على أذاهن وتَضَجُّرِهِنَّ، والصحبة معهنَّ بالمداراة، وحُسْن الخلق، وسَعة النفْس، وتمام الشفقة.
4- عنِ الحسن البصريِّ - رحمه الله تعالى -: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ الله سائلٌ كلَّ راع عما استرعاه؛ حَفِظ أم ضَيَّع، حتى يسأل الرجلَ عن أهل بيته))[13]، الراعي هو: الحافظ، المُؤْتَمَن، المُلْتَزِم صلاح ما قام عليه، وفي هذا الحديثِ يُوَضِّح النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - سيُحَاسِب كلَّ شخص تولَّى أمر بعضِ المسلمين، وأكَّد بأنه سيُسأل عنهم، وعن حِفْظه لهم، وخصَّ بذلك الرَّجُل مع أهل بيتِه مِن زوجه وولده، وأنَّه سيُسأل عنهم؛ هل حفِظ حقوقَهم، أم ظلمهم، وفرَّط فيهم، وقدْ أمرَنا النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بإعدادِ الجواب للسؤال، فقال: ((فأعدُّوا للمسألة جوابًا))، قالوا: وما جوابها؟ قال: ((أعمالُ البِر))[14]، وبيَّن لنا أنَّ الجواب يكون بالعمل بقوله: ((أعمال البر))، وهي: أعمال الخير مِن: حسن الخُلُق، وحِفظ الحقوق، والمعاشَرة بالمعروف.
5- عن معاويةَ بن حَيْدَة - رضي الله عنه - قال: "قلت: يا رسولَ الله، ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: ((أن تُطعِمها إذا طَعِمتَ، وتكسوَها إذا اكتسيتَ، ولا تضرِب الوجهَ، ولا تُقَبِّح، ولا تهْجُر إلا في البيت))[15].
في هذا الحديث يُبَيِّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقوقَ المرأة على زوجها، وذكَر منها: وجوب النفقة عليها، وكسوتها، وهذا واجبٌ بإجماع علماء المسلمين، وفيه مِن اللطائف ندب واستحباب أكْل الرجل الطعامَ مع زوْجته، وألاَّ يترفَّع عليها بأكْله وحده وهي تنظر إليه، وذكَر منها: عدم الضَّرْب، وعدم الهجر إلا في البيت فقط، وعدم التقبيح؛ أي: لا يقول لها قولاً قبيحًا، ولا يَشْتمها؛ لأنَّه من سوءِ العِشرة، وقلة الأدب، وقد عبَّر بالوجه عن الذات، فالنهيُ عن الأقوال والأفعال القبيحة في الوجه، وغيره مِن ذاتها، وصفاتها، فشمِل اللعن، والشَّتْم، والهجْر، وسوء العِشرة، وغير ذلك.
6- عنِ العِرباضِ بن سارية - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ الرجلَ إذا سقَى امرأته مِن الماء أُجِر))، قال: فأتيتُ امرأتي فسقيتُها، وحدثتُها بما سمعتُ مِن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم[16].
وهذا الحديثُ مِن أروع ما قرأتُ في معاملة الزوج لزوجته، فانظرْ إلى هذا الصحابي الجليل الّذي تربَّى على يدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما سَمِع الحديث من النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قام بتطبيقه على الفور؛ حرصًا على الأجر؛ واتباعًا لهدي النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي هو خيرُ هَدْي، فجاء إلى امرأتِه فسقاها أولاً، ثم أخْبَرها بما أخْبَر به النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعَمِل بما عَلِم، ثم عَلَّم أهله.