عودني والداي مُنذ صغري على زيارة الأقارب والبر بهم بعد أن حفظاني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم(الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وقتل النفس...الخ الحديث )
ومما أذكره بعدما جرت السنين وظهرت الأسنان زيارة لقريبة لي بعد مغرب احد الأيام..كُنت في ربيع العاشرة تزيد او تنقص قليلا..
كانت مُضيفتي إمرأة في منتصف الثلاثينات تعد من أقرب الأقربين...في غرفة هي الأقدم والأقل نظافة في بيتهم العامر تحوي بين جدرانها عجوزاً أحدودب ظهرها فلامس بطنها وتجاعيد تحفر وجهاً لاتكاد تراه...
كانت "والدتها".
اثناء حديثي معها كانت العجوز تناديها يافلانة...فتكمل الحديث معي...وأنا أرى إنكسار وجه العجوز من خلفها
كررت النداء وأردفته الله يخليكي يافلانة....اريد حليب السعودية
قامت المرأة والضجر في وجهها والتأفف لايكاد يتوقف ونظرات التأنيب كالسهام الحارقة يتطاير منها الشرر تتلقاها العجوز وتتوقاها بتحاشي النظر إليها
وقد أحسن ابن اسحاق معاوية حينما جسد هذا الموقف بقوله "ما بَرَّ والدَه مَنْ شَدَّ الطّرفَ إليه" ..
.أخذت وعاء فسكبت فيه قليل من الحليب انتكب بعضه على فراشها واعطته اياها وهي تقول كلاماً مُراً كالعلقم...شاهدت نظرات ضُعف وألم من العجوز تجاهي..
أهي شاكية..
أم باكية...
فكانت دمعاتها تنحدر وتنسكب على وعاء الحليب فاختلطت مرارة الدموع بصفاء الحليب..
حينها لم أشعر بنفسي إلا وقد وقفت امام ابنتها قائلاً يافلانة اتقي الله هذه أمك وحقها عليكي كبير كيف بكي وانتي مكانها غداً!!
ماذا عساكي ان تفعلي (( ذكرتها بالعامية حينها وبلغة ركيكة نظراً لصغر سني))
اشارت لي بالصمت واردفت بقولها لن تجد افضل مني!!!
أذهب لوالدتك واهتم بدروسك
فكانت الزيارة الأخيرة...ولازلت اذكر تاريخها حيث كان في خضم أحداث الخليج 1411هـ
وحفظت من بعدها هذه الأبيات
جعلت جزائي منك سوءً وغلظةً *** كأنك أنت المنعم المتفضل
وسميتني باسم المفند رأيه *** وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل
تراه معداً للخلاف كأنه *** برد على أهل الصواب موكل
فليتك إذا لم ترع حق أبوتي *** فعلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن *** علي بمالي دون مالك تبخل
كانت قطيعة طويلة معها بسبب هذا الموقف...." وكان من قلة الحكمة وأعترف بذلك "
ومرت الأيام والسنين حتى أتاني رسول يبلغي بسؤال قريبتي عني وبحثها وطلبها العاجل لي...
قلت لعل حادثاً قد اصابهم..
سرت حتى وصلت للدار والصراخ يعلوا من داخله..
استئذنت ودخلت..
ودخلت قريبتي..
وأجهشت بالبكاء..
وصوت ابنتها من خلف الباب يوبخها....بكلام كثير يتضح منه مدى الجفاء بينهما
حاولت تهدئتها وإسكاتها فلم يزد ذلك إلا نحيباً وبُكاء
أشارت لركن الغرفة وقالت تذكر هذا المكان...؟
فلم أتذكر...
وقلت لا!
أحضرت وعاء حليب..
وقالت أتذكره...؟
قلت نعم...ومشهد العجوز أمامي..
قالت لقد حدث ماخوفتني منه...كُنت معها لوحدي أكدر عليها واتمنى الخلاص منها بأي لحظة...سببتها ورفعت صوتي عليها لم أرحم سنها ولا ضعفها ولاقلة حيلتها..كُنت اتصنع البر بها امام الكبار حتى إذا أنفردنا كان كلامي لها كالسُم.....ذكرت كلاماً كثيرا يؤلم ويحكي الفاجعة التي كانت تعيشها والدتها في ذلك الحين معها...
ختمت الحديث وقالت الآن لي تسعة من الولد لم أجد البر من أحدهم الإناث والذكور بل إن بناتي ممن اسبلت عليهم مزن الحُب لم أجد منهن إلا الجفاء والصراخ من صغير الأمور وكبيرها...على الرغم من اني اطبخ واغسل لهن وأقضي لهن سائر الأمور...إلا ان ذلك كله لم يقربني منهن قدر أنملة...ويوماً بعد يوم تتسع الفجوة والهوة بيني وبينهن....
وليلة البارحة وانا على فراشي أبكي كعادتي واشتكي...تذكرت موقفك وكلماتك...
لقد صدقت في كل كلمة قلتها وقد استصغرت نصيحتك في حينها مُغترة بالحنان الذي اغدقه عليهن..لكن عُجلت لي العقوبة وهأنا أتمنى الموت....لقد شعرت بكل إهانة وكلمة مُرة صدرت مني لأمي.
أشكوا إليك ياماجد وانا اقوى على السير في سني هذه لكن؟
من يساعدني غداً إن كبر سني ورق عظمي....وبكت بكاءً بكيت من أثره
وتذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم
(كل الذنوب يغفر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين، فإنه يعجل لصاحبه في الحياة قبل الممات)
نصحتها بالإستغفار واللجوء إلى الله والتصدق عن والدتها لعل الله ان يبدل بحالها ويحنن قلوب ابنائها عليها...
وغادرت من عندها ولازالت إلى يومنا هذا مثل الخادمة الأجيرة لدى اولادها وقد نُقل لي ان الشيب قد انتشر في مفرق رأسها وهي لم تبلغ الأربعين....والله المستعان
زر والديك وقف على قبريهما *** فكأنني بك قد نُقلت إليهما
ما كان ذنبهما إليك فطالما *** منحاك محض الود من نفسيهما
كانا إذا ما أبصرا بك علةً *** جزعا لما تشكوه شق عليهما
كانا إذا سمعا أنينك أسبلا *** دمعيهما أسفاً على خديهما
وتمنيا لو صادفا لك راحةً *** بجميع ما يحويه ملك يديهما
أنسيت حقهما عشية أسكنا *** دار البلا وسكنت في داريهما
فلتلحقن بهما غداً أو بعده *** حتماً كما لحقاهما أبويهما
*****
وقصة أخرى من قصص البر عشت قصولها بأحد مستشفيات مدينتي...
كان احد كبار السن يعاني من مرض جلدي بدأ بأصبع قدمه وأنتهى بقطع ساقه اليسرى...
وانتشر للجهة الأخرى وكان في البدايات...
زرت هذا الرجل لصداقة تربطني بأبنه وقد كان شاباً في مقتبل العمر...عهدته مُنذ الصغر حمامةُ مسجد مع والده واخوانه
زرته قبل ان تفتح المستشفى ابوابها في ساعة الظهيرة ووجدت اباه قد نام بعد مُسكن للألم..
والأبن يقرأ القرآن وينفث على قدم والده...اشاهد المنظر من على الباب لكي لا أقطع عمله..
اثناء ذلك شاهدت حركة تعجبت منها وأكبرتها كُنت قد سمعت مثيلاً لها ولم أصدقها..
بعدما قرأ الشاب فتح الغطاء عن الجرح ونفث فيه ((وقبله)) لن اصف حال الجُرح ودمامل المكان..ربما يقشعر جسد احدكم من كلامي هذا ولكن هذا ماشاهدته...بأم عيني
بعد ذلك ارجع الغطاء ودخلت الغرفة...جلست قليلاً
وغادرت
مرت الأيام حتى توفى الله هذا الرجل...وحضر عليه جمع غفير من الناس قلما يجتمع لمثله.
مرت عشرُ سنين
وصادف ان مررت بأحد المساجد قبل فترة يسيرة فإذ بمنظر يُثلج الصدر لأثنين من الأطفال لم يبلغا الحُلم عند باب المسجد كلاهما يريد أخذ حذاء والده فيرضيهم بالقسمة...
دخلوا المسجد من خلفه وتوجها معه إلى المحراب كالحرس عن يمينه وشماله...
أعجبني الموقف وأدخل على قلبي السرور...
جلست بجوارهم طمعاً في معرفة... وتطفلاً على والدهم..
أحضر احدهم المصحف لوالده وقام الآخر يُسمع لأخيه حزباً من القرآن...
بعد الصلاة صافحت احدهما والذي كان بجواري...فرد السلام وحانت التفاتة من والده وإذ به صديقي الذي بالمُسشتفى...فكان عناق الأحباب والأخوان...وأصر على زيارتي وتناول القهوة فأعتذرت ولم أصحوا إلا بالأبنين قد امسكا بيدي فكانت طواعية بلا رهبة..
ذهبت لداره العامرة ودخلت وتحدثنا كثيراً....ولم أخفي أعجابي بأبنائه
فتبسم ضاحكاً وقال....إن محمد بن سيرين كان يكلم امه كما يكلم الأمير....وقد كان لي من هذا الموقف منهجاً مع والداي رحمهما لله لن أسهب بالحديث عن برهما بكثير لكن كلمة أف لم أنطقها ونظرة غضب لم تظهر على معالم وجهي منذ عقلت الدنيا وعلى الرغم من الفاجعة بفقدهما إلا ان الله عوضني قليل من كثير ببر أبنائي...وكما قيل ياماجد...
بروا ابائكم يبركم ابنائكم...
ولعل ذكري لهذين الموقفين تأكدي على عظمة البر بالوالدين وأثر ذلك على العبد...
القصص حول الوالدين كثيرة لايسع المجال لذكرها...
ومما تناقلته الصحف قبل فترة حادثة إغراق أبناء لأبيهم في احد البحار القريبة في مشهد يبكي الحجر وقد اطلعت على الموقف عبر صديق ارسل لي صور الحادثة...فاعتزلت الناس مُدة من الهم الذي اصابني...ولولا حُرمة ميت لرأيتم في الصورة منظراً يكدر صفو عيشكم...والله المستعان
لكن كما قال صديقي بروا أبائكم يبركم ابنائكم
كونوا خدم ابائكم يخدمكم أبنائكم
وفقنا الله واياكم لما يحب ويرضى
اخوكم
ماجد
موضوع أعجبني جداااا من النت فنقلته لكم