1979م الصف الثاني ابتدائي (ج) بالتحديد طفل في السابعة يجلس في مؤخرة الصف
في منتهى الذكاء والنباهة في كل شيء عدا الدراسة . لم يتفق يوماً مع الدرس
ولا مع المدرس جعل الهرب من المدرسة مسلكاً يساعده في الانطلاق بمخيلته إلى
أقصى مكان كان ولا زال يحلم به.. محاولاً الهروب إلى قضية ذات أبعاد سياسية
و وطنية , وضع نفسه وبكامل إرادته مقاتل مؤمن بقضية يحمل شعاراتها داخل جسده الصغير
واجه بهروبه من المدرسة قوات الظلام الغاشمة.. قوات المحتل خسر حيناً وأنتصر أحياناً أخرى..
هذا ماقد يعتقده أي ساذج يظن أن صبياً في السابعة قد يجعل الهروب من المدرسة قضية
فهو حتى لا يعلم لماذا هرب من المدرسة أصلاً ولا يعلم ماذا تعني كلمة قضية
حتى يحارب من أجلها قوات الظلام الغاشمة , حتى أن الأحمق الصغير لا يعلم
ماذا تعني غاشمة ..
وكل ماهنالك أن صاحبنا الصغير يجلس بجوار نافذة الصف والتي كانت بدورها تطل
على محل طعمية يمتلكه رجل فلسطيني يدعى العم أبو رائف !!
نعم القضية في الطعمية
لم يكن يهرب ذلك الأحمق إلا من أجل أقراص الطعمية رغبةً في الحصول على إحداها
ولو بطريق الصدفة لأنه ورغم همة عالية كانت تسكن جسده الصغير إلا أنه لم يكن يمتلك ثمنها
فالطعمية في ذلك الوقت كانت تعتبر من رفاهيات الحياة ورغم أن ولادته كانت في أعوام الطفرة
في السعودية أو قريباً منها إلا أنها لم تكن بعد عرفت طريقها إلى جيب والده ..
فالطعمية إذاً رفاهية لا يستطيع صاحبنا دفع تكاليفها لكن مجرد التواجد بالقرب من محل
العم أبو رائف كان يغذي نهم ذلك الأحمق يمني النفس بقطعة تسقط هنا أو هناك
ولكن ورغم ضحالة الهدف الذي كان يهرب من أجله إلا أنه إصتدم في أحد الأيام
بواقع غريب لم يستطع فهمه لسنوات كثيرة تالية.. فصاحبنا كان يقف كالصقر يحملق
في كل من يدخل أو يخرج من ذلك المحل ..ومعروف الهدف طبعاً...
لفت نظرة حضور مجموعة من الرجال يومياً في نفس الوقت يرتدون تقريباً نفس اللباس يمكثون
داخل المحل يتناولون إفطارهم ثم يتحدثون لما يقارب الساعة من الزمن بحديث كان الصغير يجهل
معظمه كلمات لم يعهد سماعها من قبل تبدوا مخيفة لا يفهم ماذا تعني لكنه كان يحس
بأنها مخيفة مثل الكيان , العدو , احتلال , لاجئين , الفصائل , أهلية , قتل , الهوية , عملاء
كتائب , مجازر , مخيمات , بيروت وكانت كل هذه الكلمات والطلاسم تنتهي دائماً
بما يدخل السعادة إلى قلب الصغير , رغم أنه لم يكن يفهمها بشكل تام وكامل
إلا أنه كان يسعد لمجرد ذكر الرجال لهذه الكلمات والتي منها مثلاً العودة
والعودة إلى أين ؟ إلى فلسطين وأين فلسطين وماذا تعني لهم أو له ؟
لا يعلم لكنه أحس بأنها شيء جيد .
وهكذا طارد صاحبنا الصغير الفكرة في مخيلته رابطاً بين القضية والطعمية استمر الصغير أياما بعد ذلك يكرر الهرب بل تمادى إلى حد مراقبة القوم في طريق رجعتهم
إلى المبنى الذي كانوا يأتون منه .. وكان يقف بعدهم لساعات يحاول قراءة اللوحة الكبيرة الموضوعة على مدخل البناية تلك إلى أن فتح الله عليه في أحد الأيام فإستطاع قراءة
كامل ما كتب على اللوحة ((منظمة التحرير الفلسطينية))
نعم إنها هي منظمة التحرير .. نعم أبو عمار والرفاق ..
فمن الطبيعي في تلك الفترة وجود مكاتب للمنظمة في كل أرجاء العالم العربي لرعاية شؤون
الإخوة الفلسطينيين وأيضاً تدريب المقاتلين تجهيزاً للعووووووووووووووده...
وهذا ما جعل الصغير يربط ويحكم الربط بين الطعمية والقضية التي يمثلها طبعاً رحال المنظمة
قد لا يرى أي شخص ما يربط بين محل الطعمية والمنظمة إلا في مخيلة الصغير الذي كان
يرى هذا الرابط وما جعله يربط ويعقد ويحكم الربط أنه حينما كان يهرب من المدرسة كان
يجد رجال المنظمة يكتظ بهم مطعم العم أبو رائف كل يوم وفي نفس الساعة تقريباً..
وما جعل الرابط يتعمق أكثر في تفكير الصغير ما حدث له مع رجال المنظمة بعد ذلك .
فالصغير استهوته فكرة الهروب كل يوم من المدرسة والوقوف أمام محل الطعمية يراقب الرجال
وهم يتناولون فطورهم ويتحدثون بأحاديث يفهم منها فقط أنهم يعدون العدة للعودة إلى فلسطين
لم يفهم ولم يكترث لغير ذلك من الأحاديث.. واظب كثيراً على الحضور ولكن ليس إلى المدرسة
ليشهد ما ستنتهي عليه الأمور مع رجال المنظمة وهل سيعودون إلى فلسطين
في نهاية المطاف.. معرضاً نفسه لخطر كبير وكبير جداً فالصغير كان يكبره خمسة أشقاء
غلاظ شداد لا يعرفون الرحمة ولو عرف أحدهم شيئاً عن هروبه من المدرسة قد يقتل..
ففترة السبعينات والثمانينات هروب من مدرسة يعتبر قضية شرف
وشرف الطالب في ذلك الوقت مثل عود الكبريت فالأحمق الصغير كان يجازف بشرفه
من أجل ماذا ؟ من أجل حلم العودة!!
ولأن الأمور بدأت تأخذ منحنى خطر وبدأ الطابع السينمائي المرعب يفرض واقعاً جديداً قرر الصغير أن يخرج عن صمته
وأن يضع حداً لمسلسل الهروب المخيف فشرفه الآن على المحك..
عقد العزم أن ينهي الأمر فخرج كعادته متسللاً من المدرسة في صبيحة أحد الأيام منطلقاً إلى مطعم العم أبو رائف والقوم على ما هم عليه يتناولون فطورهم ... تقدم الصغير
بثبات قاصداً أكبرهم سنا وأكثرهم وجاهةً ظناً منه أنه من يقوم مقام عريف الصف الثاني (ج)
وبكل شجاعة وجرأة !! قال: يا أستاذ متى راجعين إلى فلسطين ؟ ثم !! ثم جاء الصمت...!!
لف المكان صمت مخيف أحس الصغير أن إرتكب محظور أو نطق بكلمة من الكلمات
التي تغضب القوم بدأ الصغير يرجع للوراء مستعداً للهرب ولم يمنعه من ذلك إلا ضحكات القوم
تزلزل المكان وتحطم الصمت والخوف معاً ..
لم يخطئ الصغير حينما ذهب إلى وجيه القوم حيث تبسم ابتسامة شموخ
وربت على كتف الصغير وأعطاه قرص طعمية وقال له واظب على أكل الطعمية
كل يوم حتى تكبر وتصبح قوياً وسنعود إلى فلسطين وأنت معنا إن شاء الله .
وغادروا المكان , أكمل الصغير أكل الطعمية التي كان مجرد النظر إليها يعد حلماً بعيد المنال
ثم غادر إلى بيته ولم يهرب بعد ذلك اليوم من المدرسة أكل آلاف الأقراص من الطعمية
حتى كره طعمها.. ولم يعد القوم حتى إلى مبناهم القريب من مدرسته رغم الوعد من كبيرهم
بأخذه معهم إلى فلسطين... حزن الصغير كثيراً وما زاد في حزنه أن محل العم أبو رائف تغير
إلى كفتريا أبو الكلام نور الحق!!!! مرت الأيام والسنين
نسي الصغير كل هذا فمن عادة الصغار النسيان .................سريعاً
....................................النهاية....... ..................................
## لكل من يسأل عن مصير ذلك الصغير !! ما زال يتناول الطعمية
صباح كل يوم وفي نفس المكان يحلم بالعودة مع الرجال...
## تنويه : أن أي تشابه بين الشخصيات في هذه القصة
والشخصيات في الواقع هو من قبيل الصدفة ليس إلا ولا دخل لكاتبها في ذلك ..
لذا جرى التنويه إخلاءً للمسؤولية...
بقلم شقيق معدن الرجوله الصغير
التعديل الأخير تم بواسطة (نهر الامل) ; 04-05-2010 الساعة 03:24 PM