بادئ ذي بدء ؛ أذكر قصة حدثني بها من سمعها ممن حضرها ...
يقول راوي القصة : أتى صديقي المقيم في مدينة جدة من الخارج أخ مصري ، وهو مثقف كبير ومقيم في كندا ، وحاصل أيضًا على الجنسية الكندية ، ولديه طفل من مواليد كندا لا يتكلم إلا بالإنجليزية ! ، وهذا حال من ولد وعاش في غير ديار الإسلام !.
فَقَدَ الأخ المصري الكندي ابنه فكلم صديقي بالأمر ، فقال له صديقي : نستعين بالله أولًا ، ثم ثانيًا : نذهب إلى قسم الشرطة ليبحثوا عنه ، والله نسأل أن يوفقنا لإيجاده ، فقال الأخ المصري : اللهم آمين ، توكلنا على الله ، فذهبا إلى قسم الشرطة ، فوجدا ضابطًا فقال له الأب المصري : يا حضرة الضابط ـ طبعًا يحادثه بالعربية وبالأحرى باللهجة المصرية ـ فقدت ابني منذ أربع ساعات ولا أعرف أين ذهب ؟ فقال له : أربع ساعات لا تُعد شيئًا . اذهب فابحث عنه بنفسك لعلك تجده في مقهى من المقاهي ! ، فقال الأخ المصري وعلائم الغضب على وجهه : ابني قد ربيته أحسن تربية ، ولا يدخل المقاهي ! . ثم خرج مستخزيًا مصدومًا من سوء المعاملة .
فذهب صديقي والمصري إلى قسم آخر وجرى لهما ما جرى في القسم الأول ، فقال صديقي وكان ذكيًا عاقلًا ـ لصديقه المصري : اسمع مني ، إذا دخلنا الآن قسم الشرطة لا تتكلم بالعربية ، وتحدث فورًا بالانجليزية ، وأنا سأقوم بالواجب ، فلما ذهبنا إلى ثالث قسم شرطة قام المصري أبو الطفل بالحديث بالانجليزية ، فقال الضابط لي : ماذا يقول هذا الرجل ؟ فقال : يقول لك أنه كندي فقد ابنه منذ أكثر من ست ساعات ولم يجده إلى الأن ، فقال الضابط : جنسيته كندي ؟ فقلت : نعم . فقال : قل له يطمئن ، سنفعل اللازم ! ، وبالفعل أجرى الضابط اتصالاته وعمل تعميمًا في جميع الجهات والأقسام الأمنية كالشرطة والإسعاف وغيرهما عن فقدان ولد عمره قرابة العاشرة ، وأوصافه كذا وكذا وهو يتحدث الإنجليزية فقط ، وبعد ساعتين أو دونها وجدوا الطفل في المدينة النبوية ! وهو محتجز في أحد الأقسام هناك وتنطبق عليه المواصفات بالفعل ، وأعطوه أباه يتحدث معه بالهاتف ، فقال له : كيف ذهبت إلى المدينة ؟ قال له الابن : ألم تخبرني أننا سوف نتجه إلى الحرم وأننا سنكون هناك ؟ فلما فقدتك في الزحام فقلت في نفسي : سألتقي بك في الحرم ! فركبت سيارة وقلت له : الحرم ، وحينما وصلنا نقطة تفتيش جاءني رجل عسكري وقال كلامًا لا أفهمه . يقصد قال له : أين هويتك ؟ فقلت : الحرم ! فأخذوني ووضعوني في الحجز ( التوقيف ) ثم حينما علموا أنني ابنك سمحوا لي بالحديث عبر الهاتف معك ! . فقال لي : وكيف حالك الآن يا بني ؟ فقال : بخير يا أبي . فقال الأب : لا تقلق يا بني ؛ سوف يأتوا بك إليَّ .
وسبحان الله مغير الأحوال تغيرت معاملة الطفل بمقدار (180) درجة من السيئة إلى المعاملة الحسنة بل الرفاهية كأنه في فندق خمسة نجوم ـ كما يقال ـ فقط لكونه كندي الجنسية ! .
وبالفعل وضعوا الولد في أحسن غرفة للضباط لكي يرتاح ، وأعطوه أحسن الطعام وأجوده ، وجهزوا سيارة لنقله إلى جدة ، ثم أخذه شرطيان وذهبا به ، والتقى الولد بأبيه ، وكان لقاءً حارًا امتزجت فيه الدموع بالبكاء والعناق . ثم قال الضابط ـ والبسمة تملأ وجهه ـ للأب الكندي : أرجو توقيع هذه الورقة وفيها أنك استلمت ابنك سليمًا معافى ، فوقع الأب وانصرف ومعه ابنه وصديقه .
كل ذلك الأمر تم بعد قرابة أربع أو خمس ساعات بعد أن أخبرهم أنه كندي الجنسية ! .. .
هذا القصة قد تكررت هي ومثيلاتها كثيرًا ، لأكنها ذكرتني بقصص سمعتها من أناس شتى عن طريقة تعامل بعض الجنود مع متخلفين أو مقيمين من الدرجة الثانية ! .
ففي سنة من السنين كنت ذاهبًا مع بعض الإخوة إلى حي الروضة للصلاة خلف أحد القراء المعروفين ، وفي الطريق وجدت دوريات الشرطة تفتش وتسأل عن الهوية لتمسك المتخلفين فأمسكوا برجل صعيدي من صعيد مصر ، وفجأة حاول الهرب فأمسك به الجنود وبدئوا بركله بشدة بالبوسطار
( الحذاء العسكري ) وضربه فتذكرت ما كنت أشاهده في التلفاز من تعذيب اليهود لبعض الفلسطنين ، وهذه ليست حالة شاذة بل والله واقع مر عرفناه وأدركناه ورأيناه في أوقات عديدة وأزمنة مديدة ، بل وصل الحال عند بعضهم للموت من شدة الضرب والإهانة .
فالشاهد فمـن كانت جنسيته من الجنسيات الأوربيـة ، أو من الدول العظمى ، سُورع في نجدتهم وخدمتهم والوقوف إلى جنبهم والتخفيف من آلامهم وتهدئتهم وتسليتهم ، وأما غيرهم فعلى النقيض تمامًا خاصة سكان آسيا وأفريقيا دون دول ذوي النفوذ ودول الخليج من الدول الصغرى الفقيرة ومن جرى مجراهم ولو كانوا من ذوي الجوار !.
إن دين الله الإسلام لم يفرق بين جنس وآخر ، وجعل علامة الفيصل التقوى .. .
إننا نعيش جاهلية تفوق أحيانًا أصحاب القرون الجاهلية الأولى ، لا تعتبر للدين أي اعتبار إلا فيما ندر من أناسًا قليلين بالنسبة للسواد الأعظم فقهوا وعرفوا معنى الرحمة والكرامة للإنسان فضلًا عن كونه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله .
إننا في زمن المتغيرات والخزعبلات التي تعتبر بأشياء لم تتغير إلا عند ضعاف النفوس وجهلة الخلق وما أكثرهم في هذا الزمان مع بالغ الأسف والأسى .
في كثير من الأوقات والأحيان يعتبر بلباس الرجل وهندامه ، وطريقة كلامه ، ودابته التي يركبها .
عجبت لمن ثوبه لامع ولكنما القـلب كالفحـمة
مظــاهر براقــة تحتها بحار من الزيف والظلمة
أما علمه وفضله وخلقه ، فدون ذلك خرط القتاد(1)، ولا يعرف هذا إلا من استنار قلبه وروحه وفكره وخلقه بروح الإيمان .
كم من أناس جالسنهم وحدثناهم بكل أريحية وتقدير واحترام ونحن نظنهم من عامة الناس ، فنعرف بعد زمان أنهم من علية القوم ، لكنهم لكونهم متواضعين ومتأدبين بأدب الشارع الحكيم حيث يحادثون الناس بالاحترام والتقدير لم يعرف أحد التمييز والقهر فأحسوا بأخوتهم وصفاء نفوسهم فكانوا هم العلية في كل شيء .
فبمثل هؤلاء القوم والله يصلح حال الناس ويتربون على محاسن الأخلاق ويتجنبون سيئها ، ويكونون المعلمين القدوة لذلك ، لأنهم دعاة حق بسلوكهم وأقوالهم وسمتهم ودلهم (2) .
وأما غيرهم ممن يميز بين الخلق ؛ بأفكار مغلوطة ومفاهيم منكوسة ، لم تأت من قبل الشارع الحكيم ، بل ألقاها الشيطان الرجيم ، فهم والله خزي وعار على أمة الإسلام حيث يقفون في كثير من الأحوال كحجر عثرة وسبيل للصد عن دين الله ، فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون ! .
إننا أمة تحتاج إلى ينشر فينا الخير ويبث الوعي ، لعل الله سبحانه وتعالى يجزينا بالخير ونكون مشاعل هداية للناس في العالم أجمع .
وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يسيرون على نهجه ويقتفون أثره خلقًا وعبادة في كل شيء ، ولو أردت أن أسجل ما سطرته كتب الحديث والسير والتاريخ ، لما والله كفته مجلد أو مجلدين ، لكن تكفي الإشارة إلى القول المشهور عن الخليفة الثاني أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : « متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ؟ » وقصتها مشهورة .
أسال الله أن يصلح الأحوال والأقوال والفعال ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
الجمعة ليلة السبت 3/2/1432هـ
الهوامش :
1ـ قال ابن سيده رحمه الله في المخصص (3/142) : « يُقال ذلك في الأمر من دونه مانع ، لأن شوك القتاد مانعٌ من خرط ورقه » . وانظر المعجم الوسيط (1/227) .
2ـ في مختار الصحاح : « قال أبو عبيد : الدَّلُّ : قريب المعنى من الهدي ، وهما من السكينة والوقار في الهيئة والمنظر والشمائل وغير ذلك ، وفي الحديث : « كان أصحاب عبد الله يرحلون إلى عمر رضي الله عنه فينظرون إلى سمته وهديه ودله فيتشبهون به » .
__________________
محمد بن محمد الجيلاني
مهتم بالكتابة حول شؤون الأسرة
إننا نعيش جاهلية تفوق أحيانًا أصحاب القرون الجاهلية الأولى ، لا تعتبر للدين أي اعتبار إلا فيما ندر من أناسًا قليلين بالنسبة للسواد الأعظم فقهوا وعرفوا معنى الرحمة والكرامة للإنسان فضلًا عن كونه مسلم يشهد أن لا إله إلا الله محمد رسول الله .
إننا في زمن المتغيرات والخزعبلات التي تعتبر بأشياء لم تتغير إلا عند ضعاف النفوس وجهلة الخلق وما أكثرهم في هذا الزمان مع بالغ الأسف والأسى .
صدقت
مفارقة غريبة جدا ان تكون قيمة الاجنبي عند العربي المسلم اعلى من قيمة الاخ العربي المسلم
هذا يدل على اننا كمجتمعات عربية نعاني من خلط في الاولويات وفوضى في المبادئ
موضوع راااائع وفي الصميم
القصة يمكن اختصارها في كلمتين: (عقدة النقص) ,,
فالشرطي في المرة الاولى كان ينظر الى الاب على انه عربي مثله , لكن في المرة الثانية نظر اليه كخواجة اعلى منه مرتبة !!