يقول الكاتب المبدع محمد الدحيم في مقاله الطازج الذي كتبه أمس في صحيفة مكة "
إن الإنسان اليوم ليس مستعدا لتمرير الخرافات والخدع والزيف تحت مسميات سلطوية دينية أو اجتماعية، وقد بدأ رحلته في كشف الزيف الذي انطوت عليه الثقافة الدينية والطائفية والمهذبية، حيث وجد أن الطريق إلى هلل هو طريق الحب والجمال والسلام، طريق النور إلى النور، ليس طريقاً مرعباً في إيقاعه الحياتي ولا في لحظة التحول عن الحياة ولا في لحظة اللقاء الرباني.. تلك الثقافة الآثمة التي صورت الله بأنه إله الرعب والخوف فأصبح الطريق إليه مقلقاً ومرعباً وصعبا وكأنه طريق الهلاك لا طريق النجاة." إنتهى.
إذا فهمنا طبيعة الإنسان الحقيقية دون مكابرة سهل علينا التعامل معه وفهم سلوكياته، وجاءت ردود أفعالنا تجاهه بناء على ذلك الفهم، وبالتالي فإن مايقيّم تعاملنا معه وسلوكياتنا تجاهه وتصنيفه ليس الإرث الاجتماعي أو الديني المشوه من قبل البعض أو من بعض من تلقينا عنهم، إنما هي الرؤية الكاملة للإنسان وطبيعته ومصدر سلوكياته، إن المتأمل في ردود أفعال العظماء تجاه الإنسان يوحي بأن الحب والتفهم هما ردود الأفعال الأنسب تجاهه، لقد حدث ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جاءت إليه المرأة الغامدية وقالت يارسول الله أصبتُ حداً فطهرني، فصد عنها الرسول، ثم جاءت إليه أخرى وصد وكأنه لم يسمع وجاءت ثالثة، ولما أرى إصرارها قال إذهبي حتى تضعيه (لعلها تنسى ذلك الحد)، ولما وضعته جاءت إليه، وقالت وضعته فطهرني يارسول الله، فنظر إليها الرسول عليه الصلاة والسلام وقلبه يتفطر ألماً وحزناً على ذلك الطفل إذ من سيطعمه ويسقيه إن أقام عليها الحد، فقال أذهبي واطعميه فإذا فطمتيه فعودي إلي، فذهبت إلى بيت أهلها، وبعد أن مضىت سنتين وفطمت أبنها عادت إلى رسول الله وفي يد الطفل خبزاً يأكله، فقالت يارسول الله لقد فطمته فطهرني، فإخذ النبي الطفل وقال لأصحابه من يكفل هذا الطفل ويكون رفيقي كهاتين في الجنة.
إن المتأمل في هذه القصة لايمكنه إلا أن يخرج بعدد كبير من الحكم والفوائد، إلا أن أبرزها وما له علاقة بالموضوع أن الأصل هو الحب، أن الدين هو الحب وليس الانتقام، لقد حاول الرسول أن يصد عنها رغم اعترافها بالزنا لأن الحدود ليست غاية بحد ذاتها، إنما وسيلة يهدف منها الدين إلى تحقيق أمن وعدالة وحفاظاً على مجتمع من الانحراف، إلا أن أصرار تلك المرأة رضي الله عنها دعا الرسول إلى تطبيق الحد، بالرغم من أنه حاول تجنبه أكثر من مرة لعل المرأة تسلك طريق توبة من غير حد. أن يعترف إنساناً أمام أعظم وأطهر وأغير خلق الله على دينه وحدوده وهو صلى الله عليه وسلم، أن يتجاهل طلب المرأة وإصرارها لهو دلالة على أن الأصل هو الرحمة والحب والتسامح وليس البحث عن الأخطاء والتنبيش عنها ووضع المكائد للأخرين والتجسس والتنصت عليه وإساءة الظن بالأخرين كما يفعل الكثير من أبناء المجتمع ومن المحسوبين على الدين.
لقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام نهراً عميقاً من الحب والتسامح، كيف والأعداء اللذين غزوه وقتلوا من أصحابه، وجاء إليهم وقال لهم يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم قالوا خيرا أخ كريم وابن أخ كريم ثم قال اذهبوا فأنتم الطلقاء.
ليؤكد بذلك أن الأصل هو الحب حتى مع الأعداء، إن فكرة الانتقام لا مجال لها في قاموس سيدنا، إنه يهدف إلى الحياة والعيش المشترك والحب.
لقد مرت علينا سنوات طويلة تربى فيها المجتمع من الخوف من الله وكأنه بعبع وشر سيقتحمنا أكثر من الحب والرحمة، لقد تمت تربيتنا على أنه يجب أن نكره الأخر المختلف عنا دينياً وأن نغلظ عليه، في الوقت الذي نسوا هؤلاء رحمة محمد عليه الصلاة والسلام بالكفار قبل المسلمين، فقصصه مع الجيران اليهود وتعايشه معهم وزيارته لهم وتعامله بالحسنى مع أولئكَ الذين يخطؤون بحقه تعاملاً عظيماً، فكلنا يعرف قصة الأعرابي الذي شد قميص النبي عليه السلام بكل غلظة ويقول يامحمد أعطني مما أعطاك الله، فيعطيه رسول الله كل غنمه. إن سيرة رسول الله مليئة بالحب، ولكن كيف كنا نربى بالكرهية والتي عززتها طبيعة اجتماعية صحراوية وجد ذلك الخطاب بيئة مستعدة لهضمه وتقبله وممارسته دون أي نقدٍ له.
كان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يقول لا تظن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملاً.
وبالرغم من أنك تظن أن تلك الكلمة شراً إلا أن عمر يدعونا أن نحملها على الخير لو أن هناك ثمة محمل أو مخرج طفيف من الخير يمكن أن نحمل كلمته، إن عمر ابن الخطاب أحد دهاة العرب يتعامل مع الإنسان بناء على طبيعته، إنه يدرك أن الإنسان بطبعه ضعيف يخطئ كثيراً، وبالتالي لماذا نظل نبحث خلفه عن أخطاءه أو نتحسس من قوله، واكتشافنا لتلك الأخطاء لبد أن يكون لها عواقب سلبية كثيرة على مستوى العلاقة والمحبة والصداقة، ناهيك عن الحكم الظالم الذي قد نمارسه تجاهه من خلال ذلك الموقف، ولم يقل ذلكَ إلا حكمة منه وليس سذاجةً، إننا لن نكسبَ شيئاً حين نثبت للطرف الأخر خطأه أو مصيبته أو يدعونا ذلك لعقابه أو الشماتة به، إنما لتحمل على الخير وتستريح نفسك وعلاقتك وحياتك، حتى ولو كان الراجح أن تلك الكلمة هدفها شراً.
وقال الإمام الشافعي لأحد الناس: أعلم أنكَ لو سببتني ما أردتَ إلا الخير، والشافعي هنا يتسامى عن الإنشغال بمايقال عنه حتى لو كان سباً وقدحاً بل يحمله على الخير وحسن الظن كي لايكون أسيراً أو تحت وطأة ذلك القول أو ذلك الفعل، كي يعيش حياةً ملئها السعادة والحب، وهكذا في التاريخ العربي والعالمي المليئان بالحكم التي تبين لنا الطريقة المثلى لتفاعلنا وتعاملنا مع الإنسان وسلوكياته ببساطة ومحبة وتفهم، ولكن المجال لايسمح باستعراضها.
إننا بحاجة إلى مراجعة نقدية للمقولات التي تصدر من الأخرين سواء من المجتمع أو حتى من رجال الدين، والذين هم بشر ونتاج تربية اجتماعية معينة تؤثر في تصوراتهم الدينية واستنبطاتهم وظروفهم وواقعهم، فحين نسمع خطاب كراهية أو تجسس أو سوء ظن أو بذائة تحت غطاء الدين أو باسمه مهما كان المتحدث أو الكاتب ومهما كان الموجه عليه، فإنه يجب ألا نتلقفه ونتشربه بل علينا أن نتوقف وننقده نقداً عقلياً مستحضرين سيرة النبي الأعظم، فإن خطاب الكراهية وخطاب الدين الصافي لايجتمعان أبداً.
علينا أن نعيد تفكيرنا في مواقفنا تجاه سلوك الناس جمعيهم بداية من أطفالنا وأزواجنا ومن حولنا نهاية بالمخلتفين عنا جذرياً ودينياً، أنهم بشر لهم ظروف نشأوا فيها، والأصل فيهم الخطأ والضعف، وأن مايجب أن يسود تجاههم هو الرحمة والمحبة والتعاطف والاحترام والتفهم بدلاً من الغلظة والكراهية والتنافر وسوء الأخلاق والشك.