بسم الله الرحمن الرحيم..
ماالأسباب التي يعذب بها أصحاب القبور؟
من وجهين:مجمل ومفصل
أما المجمل : فإنهم يعذبون على جهلهم بالله,وإضاعتهم لأمره,وارتكابهم لمعاصيه,فلا يعذب الله روحا عرفته وأحبته وامتثلت أمره واجتنبت نهيه,ولا بدنا كانت فيه أبدا,فإن عذاب القبر وعذاب الاخرة وأثر غضب الله وسخطه على عبده,فمن أغضب الله وأسخطه في هذه الدار ثم لم يتب ومات على ذلك كان له من عذاب البرزخ بقدر غضب الله وسخطه عليه,فمستقل ومستكثر,ومصدق ومكذب.
وأما الجواب المفصل:
فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجلين اللذين رأهما يعذبان في قبريهما,يمشي أحدهما بالنميمة بين الناس ,ويترك الاخر الاستبراء من البول ,فهذا ترك الطهارة الواجبة,وذلك ارتكب السبب الموقع للعداوة بين الناس بلسانه وإن كان صادقا ,وفي هذا تنبيه على أن الموقع بينهم العداوة بالكذب و الزور والبهتان أعظم عذابا,كما أن في ترك الاستبراء من البول تنبيها على أن من ترك الصلاة - التي الاستبراء من البول بعض واجباتها وشروطها - أشد عذابا.
وفي حديث شعبة: أما أحدهما فكان يأكل لحوم الناس ,فهذا مغتاب,وذلك نمام,وقد تقدم حديث ابن مسعود رضي الله عنه في الذي ضرب سوطا امتلأ القبر عليه به نارا لكونه صلى صلاة واحدة بغير طهور,ومر على مظلوم فلم ينصره.(يقصد به المؤلف حديث النبي صلى الله عليه وسلم :أمر بعبد من عباد الله أن يضرب في قبره مائة جلدة,فلم يزل يسأل الله ويدعوه حتى صارت واحدة,فامتلأ قبره عليه نارا ,فلما ارتفع عنه أفاق,فقال :علام جلدتموني؟قالوا:إنك صليت صلاة بغير طهور,ومررت على مظلوم فلم تنصره)-رواه المنذري في الترغيب والترهيب (132/3).
وقد تقدم حديث سمرة في ((صحيح البخاري)) في تعذيب من يكذب الكذبة فتبلغ الافاق.وتعذيب من يقرأ القران ثم ينام عنه بالليل ولا يعمل به في النهار.وتعذيب الزناة والزواني ,وتعذيب اكل الربا ,كما شاهدهم النبي صلى الله عليه وسلم في البرزخ.
وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي فيه رضخ رؤوس أقوام بالصخر لتثاقل رؤوسهم عن الصلاة,والذين يسرحون بين الضريع والزقوم لتركهم زكاة أموالهم,والذين يأكلون اللحم المنتن الخبيث لزناهم,والذين تقرض شفاههم بمقاريض من حديد لقيامهم في الفتن بالكلام والخطب.(يقصد به المؤلف حديث النبي صلى الله عليه وسلم في البيهقي ..ثم أتي على قوم ترضخ رؤوسهم بالصخر,كلما رضخت عادت كما كانت,لايفتر عنهم شئ من ذلك.قال :ياجبريل من هؤلاء؟ قال:هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة.
وتقدم حديث أبي سعيد,وعقوبة أرباب تلك الجرائم,فمنهم من بطونهم أمثال البيوت وهم على سابلة ال فرعون,وهم أكلة الربا.ومنهم من تفتح أفواههم فيلقمون الجمر حتى يخرج من أسافلهم وهم أكلة أموال اليتامى.ومنهم المعلقات بثديهن وهن الزواني.ومنهم من تقطع جنوبهم ويطعمون لحومهم,وهم المغتابون.ومنهم من لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم .وهم الذين يمزقون أعراض الناس.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحب الشملة التي غلّها من المغنم أنها تشتعل عليه نارا في قبره,هذا وله فيها حق فكيف بمن ظلم غيره ما لا حق له فيه؟فعذاب القبر من معاصي القلب والعين والأذن والفم واللسان والبطن والفرج واليد والرجل والبدن كله.
فالنمام والكذاب والمغتاب وشاهد الزور وقاذف المحصن والماضي في الفتنة والداعي الى البدعة والقائل على الله ورسوله مالاعلم له به,والمجازف في كلامه واكل الربا واكل أموال اليتامى واكل السحت من الرشوة والبرطيل ونحوهما.واكل مال أخيه المسلم بغير حق أو مال المعاهد وشارب المسكر,واكل لقمة الشجرة الملعونة والزاني واللوطي والسارق والخائن والغادر والمخادع والماكر واخذ الربا ومعطيه وكاتبه وشاهداه والمحلل والمحلل له ,والمحتال على إسقاط فرائض الله وارتكاب محارمه,ومؤذي المسلمين ,ومتتبع عوراتهم,والحاكم بغير ماأنزل الله,والمفتي بخلاف ماشرعه الله,والمعين على الاثم والعدوان,وقاتل النفس التي حرم الله ,والملحد في حرم الله ,والمعطل لحقائق أسماء الله وصفاته,الملحد فيها,والمقدم رأيه وذوقه وسياسته على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ,والنائحة والمستمع إليها,ونواحو جهنم وهم المغنون الغناء الذي حرمه الله ورسوله,والمستمع إليهم,والذين يبنون المساجد على القبور ويوقدون عليها القناديل والسرج,والمطففون في استيفاء مالهم إذا أخذوه,وهضم ماعليهم إذا بذلوه,والجبارون والمتكبرون والمراؤون,والهمازون,والممارون,والطاعنون على السلف,والذين يأتون الكهنة والمنجمين والعرافين فيسألونهم ويصدقونهم ,وأعوان الظلمة الذين باعوا اخرتهم بدنيا غيرهم,والذي إذا خوفته بالله وذكرته به لم يرعو ولم ينزجر,فإذا خوفته بمخلوق مثله خاف وارعوى وكف عما هو فيه,والذي يهدي بكلام الله ورسوله فلايهتدي ولا يرفع به رأسا,فإذا بلغه عمن يحسن به الظن ممن يصيب ويخطئ عض عليه بالنواجذ ولم يخالفه,والذي يقرأ عليه القران فلا يؤثر فيه وربما استثقل به,فإذا سمع قران الشيطان ورقية الزنا ومادة النفاق طاب سره وتواجد وهاج من قلبه دواعي الطرب وودّ أن المغني لا يسكت,والذي يحلف بالله ويكذب,فإذا حلف بالبندق أو برأس من شيخه أو قريبه أو سراويل الفتوة أو حياة من يحبه ويعظمه من المخلوقين لم يكذب ولو هدد وعوقب,والذي يفتخر بالمعصية ويتكثر بها بين إخوانه وأضرابه,وهو المجاهر,والذي لا تأمنه على مالك وحريمك ,والفاحش اللسان البذئ الذي تركه الخلق اتقاء شره وفحشه,والذي يؤخر الصلاة الى اخر وقتها وينقرها,ولايذكر الله فيها الا قليلا,ولا يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه,ولا يحج مع قدرته على الحج,ولا يؤدي ماعليه من الحقوق مع قدرته عليها ولا يتورع من لحظة ولا لفظة ولا أكله ولا خطوة ,ولايبالي مما حصل المال من حلال أو حرام,ولا يصل رحمه ولا يرحم المسكين ولا الأرملة ولا اليتيم ولا الحيوان البهيم ,بل يدّع اليتيم,ولايحض على طعام المسكين,ويرائي للعالمين,ويمنع الماعون,ويشتغل بعيوب الناس عن عيبه,وبذنوبهم عن ذنبه,فكل هؤلاء وأمثالهم يعذبون في قبورهم بهذه الجرائم بحسب كثرتها وقلتها وصغيرها وكبيرها.
ولما كان أكثر الناس كذلك ,كان أصحاب القبور معذبين,والفائز منهم قليل,فظواهر القبور تراب وبواطنها حسرات وعذاب,ظواهرها بالتراب والحجارة المنقوشة مبنيات,وفي باطنها الدواهي والبليات تغلي بالحسرات كما تغلي القدور بما فيها,ويحق لها,وقد حيل بينها وبين شهواتها وأمانيها,تالله قد وعظت فما تركت لواعظ مقالا,وناديت ياعمار الدنيا لقد عمرتم دارا موشكة بكم زوالا,وخربتم دارا أنتم مسرعون اليها انتقالا,عمرتم بيوتا لغيركم منافعها وسكناها.وخربتم بيوتا ليس لكم مساكن سواها,هذه دار الاستيفاء,ومستودع الأعمال,وبذر الزرع,وهذه محل للعبر,رياض من رياض الجنة أو حفر من حفر النار.
أضف الى ذلك
: الغلول
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما يقال له :مدعم، فبينما مدعم يحط رحلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابه سهم عائر ، فقتله ، فقال الناس: هنيئا له الجنة ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( كلا ، والذي نفسي بيده ، إن الشملة التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم ، لتشتعل عليه نارا ) ، فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشراك أو شراكين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( شراك من نار ، أو شراكين من نار ) متفق عليه
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال : كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له كركرة ، فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( هو في النار ) فذهبوا ينظرون فوجدوا عباءة قد غلّها ) رواه البخاري
حبس المدين في قبره بدينه
وما يضر الميت في قبره ما عليه من دين، فعن سعد بن الأطول رضي الله عنه ( أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا قال : فأردت أن أنفقها على عياله ، قال : فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم إن أخاك محبوس بدينه فاذهب فاقض عنه ، فذهبت فقضيت عنه ثم جئت قلت : يا رسول الله قد قضيت عنه ولم يبق إلا امرأة تدعي دينارين وليست لها بينة قال : أعطها فإنها صادقة ) أخرجه أحمد وابن ماجه بإسناد صحيح
وجاء في حديث آخر ( إن فلانا مأسور بدينه عن الجنة فإن شئتم فافدوه ، وإن شئتم فأسلموه إلى عذاب الله) وهذا الحديث صحيح ورد بأكثر من وجه
عذاب الميت ببكاء الحي
عندما طعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل عليه صهيب يبكي ، ويقول : وا أخاه ، وا أصاحباه ، فقال عمر رضي الله عنه : يا صهيب أتبكي عليّ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ) رواه البخاري
وقد ذهب القرطبي إلى أن الميت يعذب ببكاء الحي إذا كان البكاء من سنة الميت واختياره وأوصى به كما قال
إذا أنا مت فانعني بما أنا أهله **** وشق عليّ الجيب يا ابنة معبد
وقد كان النوح ولطم الخدود وشق الجيوب من شأن أهل الجاهلية وكانوا يوصون أهلهم بالبكاء عليهم ، وإشاعة النعي في الأحياء
وينبغي أن ينبه هنا إلى لفظ البخاري ، فقد جاء فيه (( يعذب ببعض بكاء أهله عليه )) ولا يعذب بكل البكاء ، فالبكاء الذي تدمع فيه العين ، ولا شق ولا لطم ، لا يؤاخذ صاحبه به إن شاء الله
وقد ذهب ابن تيمية إلى أن الميت يعذب ببكاء الحي، وخالف مذهب القرطبي في ذلك ، وبين ابن تيمية في ختام توضيحه لهذه المسألة أن ما يصيب الميت المؤمن من عذاب في قبره بما نيح عليه يكفرالله به عن سيئاته *
( مـــــــــــنــــقــول )
من كتاب (الروح) لابن قيم الجوزية رحمه الله